شهد الجنيه المصري ارتفاعا في مقابل الدولار خلال الأيام القليلة الماضية. ففي الوقت الذي كان سعر الدولار الأمريكي يتراوح ما بين 17.887 و17.911 جنيها، هبط سعر الدولار من 17.983 جنيها في 27 كانون الثاني/ يناير الجاري إلى 17.656 جنيها في 28 كانون الثاني/ يناير الجاري، بنسبة انخفاض جاوزت 1.8 في المئة. وقد تبارت أقلام المحللين وأصواتهم التي لم تبارح ميدان الخديعة وركوب موجة نظام الحكم بعيدا عن البحث في المتغيرات الحقيقية لهذا التحسن للجنيه المصري، فهذا يبرر ذلك بالإقبال من جانب المستثمرين الأجانب تجاه أدوات الدين، وكأن أدوات الدين لم تنتعش من قبل، وكأن الاقتصاد المصري لم يعان من الخروج المستمر للأموال الساخنة مند فقده الميزة التنافسية لسعر الفائدة مقارنة بدول أخرِى أكثر ربحية واستقرارا!
وهذا يبرر ذلك بالتصريحات الإيجابية التي أدلت بها كريستين لاجارد، مديرة صندوق النقد الدولي، تجاه الاقتصاد المصري بقولها: "إنه من المهم البناء على التقدم الذي تحقق في مصر حتى الوقت الراهن، والمضي قدماً في الإصلاحات الهيكلية التي تسهل تحقيق النمو وخلق فرص العمل بقيادة القطاع الخاص، إلى جانب الإجراءات التي تعزز الشفافية والمساءلة". وكأن لاجارد لم تمجّد من قبل سياسة الحكومة المصرية وخنوعها لصندوق النقد الدولي! وكأن القطاع الخاص في مصر هو قطار التنمية والجيش هجر الاقتصاد وعاد إلى ثكناته!
سياسة التعتيم الممنهجة التي يتبعها البنك المركزي من خلال التأخير المتعمد في نشر البيانات، حتى أن آخر بيانات صادرة عنه لا تتعدى الربع الأول من العام المالي الحالي
وهذا ثالث يبرر ذلك بأن البنوك العاملة في القطاع المصرفي المصري تمتلك فوائض من الدولار الأمريكي خلال الفترة الراهنة، ناسيا أو متناسيا انكشاف المركز الخارجي للبنوك المصرية في ما يتعلق بالعملات الصعبة. وهو نفسه يبرر ذلك الارتفاع أيضا بزيادة
تحويلات المصريين في الخارج، وإيرادات السياحة والصادرات، دون أن يذكر نسبة هذا الارتفاع، ودون أن يخبرنا بآخر بيانات متوفرة عن الاقتصاد المصري في ظل سياسة التعتيم الممنهجة التي يتبعها البنك المركزي من خلال التأخير المتعمد في نشر البيانات، حتى أن آخر بيانات صادرة عنه لا تتعدى الربع الأول من العام المالي الحالي.
بل العجيب أن تجد من يبرر هذا الانخفاض بتصريحات محافظ المركزي المصري لوكالة بلومبيرغ، وأن هذه التصريحات انعكست إيجاباً على السوق المصرفية عقب التلميح بشأن تحرك مرتقب في سعر الصرف.
وكل هذه التبريرات بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولا تخرج عن الخديعة، وإن كانت تصريحات طارق عامر (في رأينا) تمثل مربط الفرس في ذات الموضوع، ولكن بصورة تخالف هذا التبرير الأخير الذي يشتم منه البعيد والقريب رائحة نفاق اقتصادي بغيض.
ولنعد إلى مقابلة محافظ البنك المركزي طارق عامر لوكالة بلومبيرغ نهاية الأسبوع الماضي، حيث ذكر أنه يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تقلبات في سعر الصرف بعد أن انتهى العمل بآلية تحويل أموال المستثمرين الأجانب في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وهي الآلية التي وضعها البنك في 2013 لطمأنة المستثمرين الأجانب على إمكانية استرداد النقد الأجنبي عندما تكون لديهم الرغبة في التخارج من الأوراق المالية المحلية. وأضاف عامر: سنشهد المزيد من تقلبات العملة بعد إلغاء آلية تحويل أموال المستثمرين الأجانب، واضطرار المستثمرين إلى التعامل عبر الإنتربنك. وشدد عامر في الوقت نفسه على التصدي للمضاربين وضمان عدم تعرض المستثمرين في أدوات الدين الحكومية المصرية للخسارة. وقال: نحن ملتزمون بضمان حرية وشفافية السوق، لكن في الوقت نفسه لدينا احتياطيات تساعدنا في مواجهة أي مضاربين أو ممارسات غير منضبطة في السوق. نحن ملتزمون بضمان حصول المستثمرين في
الديون المصرية على عائد أفضل بصورة دائمة. وأضاف عامر: الاحتياطات تساعدنا في الدفاع عن نظام الصرف الجديد، وكذلك أسعار الفائدة يمكن استخدامها كأداة أخرى.
كل هذه التبريرات بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولا تخرج عن الخديعة، وإن كانت تصريحات طارق عامر (في رأينا) تمثل مربط الفرس في ذات الموضوع
والقراءة الاقتصادية لتصريحات طارق عامر تكشف بوضوح أن الجنيه المصري في طريقه للانخفاض كنتيجة طبيعية للتعامل عبر الانتربنك، فضلا عن تلويحه بالتصدي للمضاربين من خلال ما يمتلكه من احتياطي. وهذه التصريحات في حقيقتها آفة كبرى أن تصدر من المسؤول الأول عن السياسة النقدية في مصر، وهى دعوة يفهم منها الرجل العادي والمتخصص على السواء؛ أن الفرصة مواتية نحو الدولرة وتغذية السوق السوداء مرة أخرى، وخلق بيئة نشطة للمضاربين، لا سيما وأن القراءات الاقتصادية السليمة تبرز أن الجنيه المصري يتجه نحو مزيد من الانخفاض، وهذا ما رجحته كابيتال إيكونوميكس في مذكرة بحثية سابقة، حيث ذكرت أن قيمة الجنيه ستتراجع أمام الدولار مع اتجاه
صانعي السياسات إلى تبسيط نظام سعر الصرف في البلاد. واعتبرت المذكرة أن التحركات الأخيرة من قبل وزارة المالية والبنك المركزي بخصوص التخلي عن تخفيض سعر الدولار الجمركي على واردات السلع غير الضرورية، ووقف العمل بآلية تحويل أموال المستثمرين الأجانب، خطوات في الطريق الصحيح، (لكنها) تلقي الضوء على أن سياسة الصرف الأجنبي لا تزال معقدة.
إن الواقع المنظور يكشف أن الارتفاع في قيمة الجنيه المصري هو ارتفاع مفتعل يحركه البنك المركزي من وراء ستار، للتغطية على
التصريحات الكارثية لمحافظه طارق عامر، والتقليل من آثارها السلبية على سوق الصرف في مصر، فما هذا الارتفاع سوى صحوة مفتعلة يأتي بعده انخفاض تؤيده السياسات الاقتصادية المتبعة، والتي لا تعرف سوى ترقيع الديون بالاقتراض المستمر تارة وبتجديد الودائع تارة أخرى، مع غياب أي رؤية تنموية تنوع من هيكل الإنتاج وتعزز الصادرات لتحل محل الواردات، وتحترم قبل كل ذلك الإنسان.