هي معارك لا تنتهي، وساحات لا تجف عنها أحبار الحرب ولا سيوف القلم.. هذا هو الوصف الأقرب إلى الحرب الضروس التي تدور رحاها في
العالم العربي بين النخب السياسية العربية؛ التيارات الإسلامية (الإسلام السياسي) من جهة، والتيارات العلمانية بكل تشكيلاتها يسارية وليبرالية من جهة أخرى.
لا بد أن نشير بداية إلى أن العالم العربي من وقت خروج المستعمر الأجنبي وقدوم الأنظمة العربية؛ لم يحكم بالعلمانية كما يصوره البعض، كما أنه لم يحكم بالإسلام السياسي، وأن الأنظمة التي تتخذ العلمانية غطاء لسلطاتها المطلقة وحكمها الشمولي إنما هي حقيقة تحكم بالاستبداد، والعلمانية الحقة من ذلك براء، وأن الأنظمة التي اتخذت الإسلام غطاء لها في الحقيقة هي حكمت بالاستبداد وليس بالإسلام السياسي الحق، كما حصل في السودان.
لا تكاد تختلف العلمانية الأصيلة عن الإسلام السياسي، من حيث الأهداف الكبرى وشكل الدولة التي يريدون الوصول إليها، وإن كان هناك تباين بسيط، وخاصة بعد تأثر الإسلام السياسي بأفكار مدنية الدولة التي اجتاحت كثيرا من أفرادهم ونخبهم بعد
الربيع العربي، لكنهم جميعا (إسلامي وعلماني) يتوهمون الخصومة عندما تثار صغائر الأمور.
صراع الإسلام السياسي مع التجمعات العلمانية لا يستفيد منه إلا أرباب
الاستبداد، والأنظمة الشمولية التي لا ترى في الجميع إلا خصوم يجب الخلاص منهم لتبقى لها السلطة المطلقة، وإن كانت تستخدم بعضهم ضد بعضهم في كل فترة من الفترات، لتبقي الجميع ضعيفا، ويبقى الجميع يرى في الأنظمة المستبدة ضمانا لحمايته من التيار والطرف الآخر.
يبدو أن نتائج مأساة نتائج الصراع بين الإسلام السياسي والعلماني لم تتعلم منها تلك النخب بعد
الثورة المصرية؛ التي اتحدت جميع القوى في لحظة فارقة وتكاتفت على إسقاط الاستبداد، إلا أنها اختلفت بعد ذلك سريعا، وذهب كل منهم إلى حضن العسكر يبحث عن إقصاء الطرف الآخر، والاستعانة بالاستبداد على شركاء الميدان.. فالطرف العلماني يتهم الإسلامي بالتخلي عنهم في أحداث شارع محمد محمود، والتيار الإسلامي يتهم العلمانيين بأنهم اصطفوا مع الاستبداد في إجهاض ثورة يناير وعودة حكم العسكر ليقبض يده على السلطة من جديد.
الصراع لم يقف عند مصر، بل امتد إلى تونس مهد الربيع العربي وسقوط أول طاغية ودكتاتور، إلا أن تنازل النهضة الإسلامية وإدراكها لوسائل فلول الاستبداد جعلها تقدم الحرية ومكتسبات الثورة على لذة الحكم، وهو التصرف الذي حصّن تونس ضد الانزلاق لعودة الاستبداد، والذي لا يزال يحاول من خلال التفريق بين المكون الإسلامي والمكون العلماني وتخويف الجميع من الجميع.
تكرر هذا الصراع ليلقي أثره على الثورة السورية بشكل كئيب، ويكون من أهم العوامل في فشل الثورة، ليرتهن كل جناح من أجنحة الثورة إلى دولة تدعمه، مما فتت المعارضة الخارجية وانعكس كل ذلك على الأرض، إذ تضخمت الجماعات التكفيرية لتكون صاحبة الكلمة العليا في الميدان، فتخلى الجميع عن الثورة، وأحكم الاستبداد قبضته من جديد وكذلك الأمر في ليبيا... الخ.
في الأردن كان المشهد أكثر تعقيدا وشراسة، إذ أن الصراع العلماني الإسلامي استخدم الوسائل الناعمة في معاركهم الصفرية، فلجأ الجميع إلى استخدام قوانين من مخلفات الأحكام العرفية لتحجيم كل منهم الآخر ومحاولة النيل منه، فجرت الملاحقات القضائية والحروب الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية التي يمتلكها كل طرف.
من المهم أن يدرك التيار الإسلامي والتيار العلماني في العالم العربي أنه لا يستطيع أي منهم أن ينهي وجود الطرف الآخر، وأن كلا منهم يعتبر جناح من أجنحة طائر الحرية، وأنه لا يمكن للحرية والتعددية في المنطقة العربية أن تحلّق في المرحلة الأولى من الديمقراطيات الناشئة دون وجودهم وتنافسهم وإثرائهم للحياة السياسية العربية.
في هذا المقال لا ندعو التيار الإسلامي والتيار العلماني إلى أن ينهوا الخلافات فيما بينهما. أعتقد أن الخلاف في التفاصيل يجب أن لا ينتهي ليبقى النقاش والحوار والجدل كفيل بإنضاج مواقف الجميع وتطورها، بما يخدم نمو الحياة السياسية الراشدة، إلا أن هناك خطوطا عريضة، وهي تمثل أساسيات الحياة السياسية يتفق عليها التيار الإسلامي والتيار العلماني، مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والاحتكام إلى الصندوق وأهمية التخلص من الاستبداد، وأهمية التشاركية لا المغالبة في المراحل الانتقالية، وتقديم قيمة الحرية والديمقراطية ومكافحة الاستبداد على النزعات الأيديولوجية.. هذه الخطوط العريضة هي التي يجب أن نعمل عليها جميعا، ونلتفت عن صغائر الخلاف التي لا تؤثر في المشهد السياسي إطلاقا.
حالة الاستبداد العربي حالة معقدة محمولة على ظهر المال والسلاح والجيوش والدعم الخارجي، وعدم وعي الشعوب بأهمية الحرية والديمقراطية في الخلاص، مما يجعل اتحاد التيارات العلمانية والإسلامية لمواجهة هذه الحالة أمرا ضروريا للتخلص من هذا السرطان السلطوي المعقد. يخطئ أي من الأطراف إن ظن أنه قادر على فتح معركة مع الطرف الآخر، وبنفس الوقت يفتح معركة مع الاستبداد، سيكون واهما، ويخطط ويعمل من أجل الفشل.
بعقلية الصراع الأيديولوجي فيما بين النخب السياسية نعطى قبلة الحياة للاستبداد وإكسير الخلود له في المنطقة ليبقى جاثم على صدور الشعوب. ليدرك الجميع (تيار إسلامي وتيار علماني) أنهم لن يهزموا الاستبداد إلا بتعاونهم جميعا على إسقاط حالة اللاديمقراطية التي تعيشها المنطقة العربية، واتفاقهم على تقاسم السلطة بعد الصندوق في المرحلة الانتقالية، بما يستأصل حالة الاستبداد من جذورها العميقة في مؤسسات الدولة. ويمكن للحرية أن تصبح جزءا من مكونات الشخصية العربية، وبعد عقود تنطلق
الديمقراطية لتعيش حالتها التي تعيشها الدول الغربية حاليا، ويحاول كل منهم طرح تفاصيل معتقداته الأيديولوجية على الجمهور.