إذا ذُكر اسم الحركة الحقوقية في بلد عربي أو مسلم، يستبشر المظلوم عادة، ويتوجس السياسي غالبا، ولا يلقي عموم الناس لها بالا دائما. فهي مجرد محامٍ مجاني قد يأتي على يديه بعض الفرج لدى القسم الأول، وهي مجموعة عملاء للقسم الثاني، ولعموم الناس هي جمعيات لا يفهمون لغتها، وليس لها صلة بحياتهم اليومية. لماذا إذن لا تتبوأ هذه الحركة مكانا مرموقا وشعبية كبيرة لدى أمم أرهقتها صنوف الظلم أشكالا وألوانا؟
لقد ولدت الحركة الحقوقية في
العالم العربي مع أواخر سبعينيات القرن الماضي، وقد أخذت شكل الجمعيات في بعض البلدان وتفاعل معها بعض المحامين. حينها، كانت تجربة اليسار السياسية في كثير من الدول العربية آخذة في الأفول، في وقت كان منحنى
الحركات الإسلامية المختلفة في صعود، سواء من ناحية الحشد أو المجال للحركة والعمل. وجد كثير من النشطاء اليساريين القدامى ضالتهم في هذه الحركة الوليدة الطامحة لغايات إنسانية، متجاوزة دوائر الانتماء السياسي والديني والعرقي، لتدافع عن الإنسان من حيث كونه إنسانا. وبذلك صبغ لون اليسار الجيل الأول والثاني من رموز الحركة الحقوقية في العالم العربي، الأمر الذي ربط مسار هذه الحركة وغاياتها بالتيار اليساري والانتماءات السابقة لهذه الرموز، وهو الأمر الذي أحدث شبه قطيعة مع أبناء التيار الإسلامي والمتدينين بصفة عامة، رغم أن هذه الحركة لم تقصر في الدفاع عن المظلومين، سواء كانوا من الحركات الإسلامية أو غيرها، مع بعض الاستثناءات بطبيعة الحال.
وبذلك حدثت فجوة بين الحركة الحقوقية العربية وبين الشارع المتدين؛ لم يسعَ أحد لسدها. وبقيت الحركة تناضل عبر أشكال مختلفة من النضال، من دون أن تشكل قاعدة جماهيرية عريضة قادرة على التضامن الحقوقي، والتسامي فوق أي خلافات لصالح المشترك الإنساني.
إن محاولة الحركة الحقوقية على مدار أكثر من أربعة عقود من أجل تأسيس وترسيخ مبادئ
حقوق الإنسان؛ لا تصطدم فقط بجدر الأنظمة السياسية السلطوية المتعاقبة، ولكن تصطدم أيضا بغياب أي تنظير شرعي وفقهي للنضال الحقوقي ومبادئ حقوق الإنسان الحديثة، الأمر الذي سهّل على الأنظمة السلطوية المتعاقبة استخدام بعض الخطاب الديني لمحاربة الحركة الحقوقية شعبيا.
وبالمناسبة، فإن العرب والمسلمين كانوا جزءا من التراكم الإنساني القانوني الذي شكل مبادئ وسمات هذه الحركة. فعلى سبيل المثال، شاركت البيجوم شيستا إكرام الله، مندوبة باكستان في الأمم المتحدة، في صياغة الإعلان العالمي حقوق الإنسان، كما شارك في الصياغة أيضا البروفيسور اللبناني شارل حبيب مالك.
هذه المشاركة العربية والإسلامية في البدايات لم تستمر لاحقا، مع رسم السياسات وأطر العمل. وبعد أن أصبح ملف حقوق الإنسان حاضرا بقوة على كافة الصعد، تعامل بعض المشايخ معه بطريقة تضبيط الأوراق، وأصدروا بعض البحوث التي تتحدث عن أهمية حقوق الإنسان في الإسلام، من دون الاشتباك الفقهي مع القضايا الشائكة. وكانت هناك استثناءات قليلة، مثل جهود الدكتور محمد سليم العوا مع المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وبعض أعماله الفكرية، لكنها تعبير عن حالة وجهد فردي أكثر من كونه تيارا.
الاشتباك الفقهي والاجتهاد الحقوقي أصبح ضرورة لازمة؛ في وقت تزايدت فيه المظالم بشكل غير مسبوق في العالم العربي، وزاد احتكاك كثير من الناس بالحركة الحقوقية على المستويين المحلي والدولي. وهو اجتهاد يستلزم إلمام الفقيه بأدوات الحركة وفهم منطلقاتها ومدارسها وآليتها، قبل القفز على الحكم المسبق على حملاتها وشعاراتها؛ لأن عذر الخصوصية الثقافية ليس مبررا للتنصل من إعطاء كل ذي حق حقه. وهي كلمة باطل يراد بها باطلا؛ تستخدمها الأنظمة الشمولية كي تستمر في قمع الناس. وأتصور أنه مجهود مشترك يقع على عاتق رموز الحركة وروادها، كما يقع على كاهل الباحثين والفقهاء المسلمين. فالحركة، وإن كانت تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، إلا أن من مصلحتها أن تتصالح مع الموروث الثقافي والحضاري للشعوب التي تتعامل معها وتدافع عن حقوقها.