لا تزال الأسئلة التي تطرحها ثورات الربيع العربي ملحة كما كانت يوم اندلاعها. ولا تزال ثورة تونس تحرك من الاستفهامات ومن القراءات ما لم تحركه ثورة أخرى من التجارب الثورية العربية وذلك لسببين: أما الأول فيتمثل في كونها التجربة التي لم تنجح قوى الثورة المضادة بمخالبها الإقليمية في وأدها وإلحاقها بحمامات الدم والقمع التي لا تزال صنابيرها مفتوحة في سوريا واليمن ومصر وليبيا. ويتجلى الثاني في الحركية الكبيرة التي تتميز بها التجربة التونسية رغم كل المآخذ وهي تتحسس طريقها نحو النجاح وتصفية الإرث الإستبدادي الثقيل الذي تركه العهد الإستبدادي الأول مع المرحلة البورقيبية والعهد القمعي الثاني مع تجربة الإنقلاب الطبي الذي قاده الجنرال بن علي.
السببان متكاملان لكنهما يمثلان نموذجا مزعجا بل ومخيفا لمختلف القوى الإقليمية العربية وللعراب الدولي الساهر على إبقاء المنطقة وشعوبها خاضعة له اقتصاديا وثقافيا وحضاريا.
الثورة المضادة والتجربة التونسية
لا يزال مطلب إلغاء التجربة الثورية التونسية قائما بل وملحا من طرف قوى عديدة شكلت الثورة تهديدا لمجموع المصالح والشبكات التي نسجتها طوال الحقبة الاستبدادية. داخليا تواصل المنظومات المرتبطة بالنظام القديم والتي كانت تشكل حاضنته الأساسية العملَ على إرباك المشهد الإنتقالي والعمل على إيقاف التجربة الديمقراطية بوسائل مختلفة وليست حملة "السترات الحمراء" التي ظهرت مؤخرا برعاية خليجية سخية وبتنسيق من كبار رجال الأعمال المحسوبين على النظام القديم إلا آخر ما تفتقت عنه قريحة الثورة المضادة في تونس.
في هذا الإطار كذلك تتنزل الإحتجاجات والإضرابات العمالية التي يشرف عليها "الإتحاد العام التونسي للشغل"، الذي تحول من طرف نقابي يناضل من أجل حقوق العمال ومطالبهم الأساسية إلى طرف سياسي وإيديولوجي يسهر على التمكين لعودة منظومة الإستبداد التي كان أمينه العام داعما لها إلى آخر يوم في عمر النظام القديم. لقد كان السيد "عبد السلام جراد" الأمين العام للمنظمة النقابية يساند الطاغية بن علي ضد شعبه في الوقت الذي كانت فيه قرى القصرين وسيدي بوزيد تنزف تحت رصاص القناصة.
أما مؤسسة الرئاسة التي تعاني من شلل عضوي في أدائها السياسي الناجم عن ضعف رئيس الجمهورية ومجموعة المستشارين المحيطة به فقد تحولت اليوم إلى طرف أساسي في المشروع الإنقلابي الذي يطبخ على نار باردة. تحاول الرئاسة في تونس استعادة النفوذ الذي كان لها خلال الفترة الإستبدادية بعد أن قلصت الثورة ودستورها من صلاحيات رئيس الجمهورية وحدّت من نفوذه على القرار السياسي.
اقرأ أيضا: الجبالي: السبسي يريد الانتقام من "النهضة" لأسباب شخصية
لكن من جهة أخرى لا يقتصر فعل الثورة المضادة على تسميم المسار السياسي والسياق الإجتماعي بل يستفيد كذلك من الإنقسام الحاد والتقاتل المحموم الذي يطبع أداء النخب السياسية التونسية بما فيها تلك المحسوبة على الخط الثوري. أي أن انسداد الأفق السياسي لا يقتصر على الفاعل المرتبط بالنظام القديم بل يتغذى كذلك من تصارع القوى والأقطاب الثورية بشقيها المحافظ والليبرالي.
خطوط الإمداد الخارجية
أما خارجيا فتعمل الأطراف العربية وخاصة منها الخليجية الداعمة بقوة وبسخاء للثورة المضادة على إلغاء الإستثناء التونسي. فكل المحاولات الإنقلابية المباشرة منها وغير المباشرة إنما تتم بدعم وتنسيق من دول الخليج التي ترى في التجربة التونسية تهديدا مباشرا لها ولمنوالها السياسي القائم على إلغاء الشعوب من المعادلة السياسية. لقد شكل الإنقلاب في مصر ووصول الجنرال السيسي إلى السلطة منعرجا حاسما في إضعاف المد الثوري وكان مقدمة إلى إجهاض التجارب الثورية القائمة ومقدمةً إلى المذبحة السورية التي لا تزال متواصلة.
عملت دولة الإمارات العربية ومن ورائها السعودية على وأد الربيع العربي الذي مثّل زلزالا عنيفا ضرب الأسس الصلبة للنظام الرسمي العربي بما هو الوكيل الإقليمي للنظام الاستعماري العالمي. إن كل المحاولات الإنقلابية الناجحة منها والأقل نجاحا في مصر وتونس وليبيا خاصة إنما انتعشت بفضل هذا الدعم الخليجي الذي خبر محاربة الثورات بدل احتوائها أو التعامل معها بما هي مطلب شعبي قادر على إنقاذ النظام الرسمي العربي من نفسه قبل كل شيء.
لم تر المنظومة الإستبدادية العربية في المطالب الشعبية إلا تهديدا مباشرا لها ولسلطتها بشكل عمّق من الأزمة التي أنتجت الثورات نفسها وتحولت المطالب الإحتجاجية السلمية إلى حروب أهلية وانقلبت الميادين من ساحات للتظاهر السلمي والتعبير الثوري الاحتجاجي إلى ميادين للحروب والتقاتل.
لقد أضاع الفعل السياسي العربي فرصة تاريخية وفرتها له الثورات الشعبية ليحدث قطيعة جادة مع الممارسة السياسية الاستبدادية ويؤسس لفعل سياسي جديد. بل فرضت السلطة السياسية العربية واقع الفوضى واستثمرت في آليات القمع بشكل ضاعف من الأزمة التي تعيشها المنطقة وفتحها على كل الأطماع الخارجية التي تمثل اليوم الرابح الوحيد من واقع الانكسار العربي.
مستقبل تونس ومستقبل الثورات
رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجهها التجربة التونسية اقتصاديا واجتماعيا إلا أنها لا تزال تمثل النموذج الوحيد الذي لم ينزلق نحو الفوضى والاقتتال الداخلي. لا تزال الثورة التونسية تحمل أمل كل الشعوب العربية في إمكانية نشأة نظام سياسي عربي مؤسس على غير القمع والاستبداد والتفرد بالسلطة وكبت الحريات.
إن العنف والفوضى والإرهاب الذي أعقب الثورات هو بالأساس من صناعة النظام الرسمي العربي الذي جعل من دفع الثورات نحو الاقتتال مدخلا يشرع له قمعها بكل أنواع الأسلحة.
اقرأ أيضا: عراب الثورات المضادة غير مرحب به في تونس