كلما تابعت كيف تدار مصر اقتصاديا وسياسيا، تأكد لي ما سطرته منذ الانقلاب العسكري بأن التنمية وهم، والرخاء سراب، وأن الشعب المصري يعيش ما بين متألم ساكت، ومخدر، ومغفل تائه، ومنتفع ظاهر. ففي ظل عالم يعيش في ظل الحرية حتى في أدغال أفريقيا، نجد الصورة مختلفة تماما في قلب العالم العربي والإسلامي.. في مصر التي اعتلاها المرض بفعل حكم عسكري غاشم يعادي الحريات ويكتم الأصوات، ويضحي بالثروات، ويبيع البلاد والعباد، ولا هم له سوى مزيد من التصريحات التي تمثل مزيدا من الفضائح المخالفة للعلم والعقل، وتدخل في عمامة الفهلوة.
فقد شهدت الأيام القليلة الماضية تصريحات متعددة لرئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي، لا سيما في ختام فعاليات منتدى أفريقيا 2018، حيث ذكر أنه "في الخارج لا يتم قياس المشروعات كما نقيس نحن، ولكن يتم النظر إلى تلك الأمور باعتبارها دراسات للجدوى.. وفي مصر كانت هناك العديد من دراسات الجدوى؛ إذا ما سارت عليها مصر لم تكن لتنهي من 20 إلى 25 في المئة من المشروعات التي تمت على أرض الواقع.. لو كنت مشيت بيها وخليتها العامل الحاسم أنا أتصور أننا مكناش هنحقق اللي حققناه.. وهذا الكلام لا يعيب المسار العلمي في شيء، ولكن ما كان على الواقع هو ضرورة ملحة لتشغيل خمسة ملايين مواطن مصري كضرورة قصوى، ما اعتبرته استثمارا في حد ذاته، بخلاف تحقيق الاستقرار والأمن والحفاظ على الدولة، وإعطاء فرص للتشغيل بمشروعات مختلفة، على رأسها البنية الأساسية وأشياء أخرى".
في ظل عالم يعيش في ظل الحرية حتى في أدغال أفريقيا، نجد الصورة مختلفة تماما في قلب العالم العربي والإسلامي.. في مصر التي اعتلاها المرض بفعل حكم عسكري غاشم يعادي الحريات ويكتم الأصوات، ويضحي بالثروات
ضد العلم!
وبذلك يخرج السيسي عن المسلمات العلمية، بل والفطرية. فهو لا يؤمن بشيء اسمه دراسات جدوى، ويظن أن القرار في يده، يفعل ما يشاء دون حاجة إلى معلومات تصل إلى تحقيق المشروع الربحية الاقتصادية والاجتماعية. فلا يمكن لعاقل أن يغفل الدور الأساسي والمحوري لدراسات الجدوى، وما تتضمنه من دراسات متخصصة لا غنى عنها للحكم على صلاحية المشروع، حيث يتوقف نجاح المشروع على مدى اتباع الأساليب العلمية المنظمة في دراسة كافة الجوانب المرتبطة به قبل تنفيذه، وكلما زادت جودة هذه الدراسات كلما زاد احتمال نجاح المشروع في تحقيق أهدافه.
وكان من نتيجة ذلك، أن مشروعات السيسي التي نفذها أو ما زال ينفذها، وفي مقدمتها مشروع تفريعة قناة السويس ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة، أجهضت الاقتصاد، ولم تحقق قيمة مضافة، وقضت على ما تبقى من شبكة الأمان المجتمعي، وأذابت الطبقة الوسطى، وزادت من رقعة الفقر والبطالة، وهو في الوقت الذي يدعي تشغيل خمسة ملايين عامل لا هم له سوى التخلص من العمالة، وسيسعى العام القادم بكل قوته للتخلص من نصف العمالة في الحكومة والقطاع العام، تنفيذا لتعليمات صندوق النقد الدولي وتصريحاته السابقة في هذا الشأن.
مشروعات السيسي التي نفذها أو ما زال ينفذها، وفي مقدمتها مشروع تفريعة قناة السويس ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة، أجهضت الاقتصاد، ولم تحقق قيمة مضافة
أوامر على الهواء
إن اعتراف السيسي ونظرته الدونية لدراسات الجدوى؛ يؤكد ما قلناه مرارا من أنه لا يعترف بشيء اسمه دراسات جدوى، وليس في قاموسه سوى تنفيذ أوامره العسكرية حتى بدون تظلم لاحق،. فتفريعة القناة ألزم على الهواء مباشرة رئيس أركان الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بضغط مدة تنفيذها إلى عام واحد بدلا من ثلاث سنوات، وجلب لها جل كراكات العالم التي جعلت خزانة الدولة خاوية من العملة الصعبة، ووصلت بالجنيه إلى التعويم، وهو الأمر الذي زاد من حدة التضخم والفقر والبطالة، وجعل غالبية المصريين في عداد الباحثين عن قوت يومهم ولا يجدوه. ولم يقتصر أمر النظر بدونية لدراسات الجدوى على ذلك، بل امتد إلى مشروع تنمية شرق التفريعة، حيث قال لرئيس أركان الهيئة الهندسية للقوات المسلحة علي الهواء مباشرة: ثلاث سنوات كتير. أنا هاسمح بس بسنتين"، ثم بعد كل ذلك سلم قناة السويس لقمة سائغة للإمارات.
أما العاصمة الإدارية الجديدة، فحدث ولا حرج. فقد شهد الجميع، وعلى الهواء مباشرة، الحوار الذي دار بين السيسي ورئيس تنفيذ العاصمة الإدارية في حينها، الإماراتي محمد العبار، حيث أفصح العبار عن تنفيذ المشروع في عشر سنين، فقال له السيسي: عشر سنين مين؟ ولا سبع سنين كمان. فقال له العبار: تؤمر. فقال السيسي: آمر إمبارح.
للأغنياء فقط
وجود حَوَل تنموي أدى لتفاقم مشكلات الاقتصاد المصري. فمصر ليست بحاجة إلى عاصمة إدارية جديدة للأغنياء، بل في حاجة إلى مشروعات تزيد من الصادرات وتحل محل الواردات، وتعمل على تشغيل الشباب
وكان من نتيجة ذلك وجود حَوَل تنموي أدى لتفاقم مشكلات الاقتصاد المصري. فمصر ليست بحاجة إلى عاصمة إدارية جديدة للأغنياء، بل في حاجة إلى مشروعات تزيد من الصادرات وتحل محل الواردات، وتعمل على تشغيل الشباب. كما كان من نتيجة ذلك انسحاب العبار نفسه من المشروع، وما زالت الانسحابات تترى. فقد ذكرت وكالة بلومبرج هذا الأسبوع أن المفاوضات بين القاهرة وشركة "تشاينا فورتشن" الصينية توقفت ووصلت إلى طريق مسدود، وكانت لتمويل مشروع قيمته 20 مليار دولار، ممثلا في إنشاء مدينة صينية تجارية وثقافية وسكنية على مساحة 14 ألف فدان في العاصمة الإدارية الجديدة. إضافة إلى ذلك، فقد فشلت المحادثات بين الحكومة المصرية وبنك الاستيراد والتصدير الصيني (إكزيم بنك) بشأن قرض قيمته 1.2 مليار دولار لتمويل مشروع القطار الكهربائي، وهو ما تسبب في تأجيل المشروع، حسب تصريحات مسؤول بوزارة النقل.
إن كل هذه الأحداث تبرز ما آل إليه حال مصر، حتى أصبح جل اهتمامات السيسي النظر في وزن الناس، ولو قدر له أن يفرض ضرائب على الوزن لفعل، بل إن وزراءه ووسائل إعلامه تسابقوا في إيلاء أولوية للحد من السمنة، وفي مقدمتهم وزير التعليم، مع أن السمنة من سمات أهل بيته ومناصريه؛ في الوقت الذي يعاني الشعب من الجوع والخوف ويبحث عن لقمة العيش. ثم يأتي مشهد "العريف" في كل شيء، في حوار باهت بالحتة مع محافظ القاهرة، وكأننا في حارة من حارات روايات نجيب محفوظ.. حقا لقد صدق المتنبي حين قال: وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ... وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا.
مبادرات "المصالحة" في مصر: جذور وسمات الأزمة (1)
هل "تجزأرت" مصر أم مُصّرت الجزائر؟