لم تمتلك أي من المبادرات التي طرحت في
مصر حتى الآن ما يكفي من المقومات اللازمة لضمان نجاحها، إما لقصور في فهم طبيعة الأزمة، أو لعدم توافر الإرادة اللازمة لتجاوزها أو الاثنين معا. ولأنها أزمة ثلاثية الأضلاع، كما سبقت الإشارة في المقال الثاني بصحيفة "عربي21"، فسوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تسويتها إلا إذا تسلح كل طرف من أطرافها بما يكفي من الشجاعة لممارسة النقد الذاتي، ومراجعة وتصحيح الأخطاء التي ارتكبت، والالتزام بعدم تكرارها في المستقبل.
أخطاء التيارات الإسلامية والعلمانية
ارتكب تيار الإسلام السياسي أخطاء كبرى تصل إلى حد الخطايا، خصوصا أنه وصل إلى مواقع السلطة في أعقاب ثورة لم يكن هو مفجرها. ولا شك أن اللوم الأكبر هنا يقع على عاتق جماعة
الإخوان، مقارنة ببقية فصائل هذا التيار؛ لأنها كانت بمنزلة القائد الفعلي له. فقد عجزت عن إدراك طبيعة المرحلة، ولم تتمكن من ترتيب أولوياتها بشكل صحيح، في وقت كان المنطق يفرض عليها أن يتصدر استئصال جذور النظام الذي أسقطت
الثورة رأسه جدول أعمالها فور وصول مرسي إلى موقع الرئاسة، بالتعاون مع قوى الثورة التي كان ينبغي للرئيس أن يسعى بنفسه لإعادة ترميم تحالفهما معا.
اللوم الأكبر هنا يقع على عاتق جماعة الإخوان، مقارنة ببقية فصائل هذا التيار؛ لأنها كانت بمنزلة القائد الفعلي له. فقد عجزت عن إدراك طبيعة المرحلة، ولم تتمكن من ترتيب أولوياتها بشكل صحيح
لكن يبدو أنه كان لجماعة الإخوان أولويات أخرى فرضت عليها التحالف مع قوى بدت أقرب إليها عقائديا وأيديولوجيا، في مقدمتها التيار السلفي المعروف بارتباطاته مع الأجهزة الأمنية وبموقفه المعادي للثورة في البداية.
ومن المعروف أن التيار السلفي كان قد ورط الجماعة في مناقشات عقيمة حول قضايا إشكالية تتعلق بصياغة الدستور الجديد، الأمر الذي أدى دورا كبيرا في شق صفوف الثورة، ثم تخلى عنها عند أول منعطف وراح يتعاون مع القوى المناوئة للجماعة قبيل وبعد 30 حزيران/ يونيو، ربما لأنه كان يخطط لتولي قيادة التيار الإسلامي إن نجح في إفشال الإخوان وتم إسقاطهم، غير أن النتيجة كانت إفشال الثورة وفتح الطريق أمام الثورة المضادة.
أما التيارات العلمانية، فقد ارتكبت بدورها أخطاء فادحة، حيث راحت أجنحتها المختلفة تزايد بعضها على بعض. ولا جدال في أن بعض هذه الأجنحة بالغ في إظهار العداء للتيار الإسلامي، بصفة عامة، ولجماعة الإخوان المسلمين، بصفة خاصة، إلى درجة دفعت بها في النهاية للانزلاق نحو الوقوف في خندق واحد مع قوى الدولة العميقة، التي أخذت على عاتقها إجهاض ومحاصرة وتصفية قوى الثورة ككل.
التيارات العلمانية ارتكبت بدورها أخطاء فادحة، حيث راحت أجنحتها المختلفة تزايد بعضها على بعض. ولا جدال في أن بعض هذه الأجنحة بالغ في إظهار العداء للتيار الإسلامي
ومن المفارقة هنا، أن العديد من رموز هذه التيارات، على اختلاف ألوانهم ومشاربهم، يقبعون الآن داخل أقبية السجون، ولم يشفع لهم أبدا عند المؤسسة العسكرية الحاكمة، أنهم كانوا في طليعة القوى التي عارضت حكم الإخوان وصنعت "انتفاضة 30 يونيو".
خطايا المؤسسة العسكرية
وارتكبت المؤسسة العسكرية بدورها أخطاء لا تقل فداحة؛ عكست عجزها التام عن فهم واستيعاب حقيقة ما حدث ويحدث في مصر. فقد بدت معظم القيادات العليا لهذه المؤسسة، حتى قبل اندلاع ثورة يناير، غير مرتاحة لمشروع توريث ونقل السلطة من مبارك الأب إلى جمال الابن، ومن ثم وجدت في الثورة فرصة سعت لانتهازها للتخلص من مشروع، كان سيترتب عليه حتما نقل السلطة خارج نطاق سيطرتها أو تأثيرها المباشر، غير أنها لم تكن مستعدة لتغيير تركيبة نظام تعد جزءا لا يتجزأ منه، أو حتى القبول بإدخال تعديلات جذرية على توجهاته السياسية والاقتصادية، الأمر الذي انتهى بها في النهاية للوقوف موضوعيا في خندق الثورة المضادة.
إذ يبدو واضحا تماما اليوم أن الدور الذي أدته المؤسسة العسكرية في أحداث 30 يونيو، وما تلاها من أحداث، لم يكن يستهدف فقط التخلص من حكم جماعة الإخوان، وإنما كان يسعى أيضا لأن تتولى بنفسها مسؤولية الحكم وبشكل مباشر، وهو ما يفسر تخلصها لاحقا من كل القوى التي ساهمت في تفجير ثورة يناير.
يبدو واضحا تماما اليوم أن الدور الذي أدته المؤسسة العسكرية في أحداث 30 يونيو، وما تلاها من أحداث، لم يكن يستهدف فقط التخلص من حكم جماعة الإخوان، وإنما كان يسعى أيضا لأن تتولى بنفسها مسؤولية الحكم
نخلص مما تقدم إلى أن الأزمة السياسية الراهنة في مصر، هي نتاج أخطاء ارتكبتها القوى كافة دون استثناء، بما فيها القوى المدنية التي ترفع شعار الديمقراطية، غير أن المسؤولية الأكبر تقع، وإن بدرجات متفاوتة، على عاتق القوى التي تولت السلطة فعلا، أي على عاتق كل من المؤسسة العسكرية المصرية، من ناحية، وجماعة الإخوان المسلمين، من ناحية أخرى، وكلاهما لا يؤمن بالديمقراطية ولا يستهدف إقامة دولة مدنية حديثة.
ودون إقدام جميع الأطراف المعنية على مراجعة جادة وشجاعة وأمينة لمواقفها وسياساتها السابقة، فسوف يكون من الصعب العثور على أرضية مشتركة تسمح بالتأسيس لنظام سياسي يضمن التداول السلمي للسلطة، وفق قواعد متفق عليها.
ولأن المراجعة المطلوبة والضرورية لم تتم حتى الآن، ولا يبدو أنها تلوح في أفق المستقبل المنظور، فالأرجح أن تستمر الأزمة إلى أن تنضج شروط موضوعية تجبر هذه الأطراف الثلاثة على الدخول في حوار حقيقي فيما بينها؛ بحثا عن مخرج للأزمة المصرية الراهنة. وأول هذه الشروط هو الاقتناع بأن البحث عن مخرج، مسؤولية جماعية وليس فردية. فإما البحث عن مخرج جماعي، أو انتظار حدوث انفجار جديد يصعب التنبؤ بعواقبه، والأرجح أنه سيكون وبالا على الجميع.
خاتمة: حتى لا تتحول الخلافات إلى انقسامات
للبحث عن مخرج للأزمة السياسية الراهنة في مصر، ينبغي على مختلف الأطراف المعنية بمصير الأوطان أن تدرك الفرق بين مفهوم الانقسام ومفهوم الاختلاف. فالانقسام يشير إلى حالة تتسم بعدم القدرة على التواصل، ومن ثم قد تفضي إلى قطيعة أو حتى إلى صدام محتمل بين شركاء الوطن الواحد، وهو أمر غير مرغوب وينطوي استمراره على مخاطر يحسن العمل على تجنبها بكل الوسائل المتاحة.
الأرجح أن تستمر الأزمة إلى أن تنضج شروط موضوعية تجبر هذه الأطراف الثلاثة على الدخول في حوار حقيقي فيما بينها؛ بحثا عن مخرج للأزمة المصرية الراهنة
أما الاختلاف فيشير إلى حالة من التباين في وجهات النظر تتنوع فيها الرؤى والاجتهادات، وهو أمر طبيعي ومطلوب. غير أنّ الاختلاف في وجهات النظر بين الشركاء يحتاج في الوقت نفسه إلى آلية لإدارته بطريقة تساعد على مواجهة التحديات المشتركة، وتضمن لكلّ الأطراف المعنية التمتع بما لهم من حقوق وأداء ما عليهم من واجبات.
أما إذا غابت الآلية المناسبة، فقد تتحوّل الخلافات إلى انقسامات عميقة تستعصي على الحل، وهذا هو ما حدث بالفعل في مصر وفي مجتمعاتنا العربية. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الإشكالية الحقيقية التي تواجه مجتمعاتنا العربية، لا تتعلق بعمق الخلافات القائمة بين التيارات والفصائل المختلفة، وإنما في عجزها عن الاتفاق على آلية مناسبة لإدارة خلافاتها، بطريقة تضمن عدم تحول هذه الخلافات إلى انقسامات تستعصي على الحلّ.
وتأسيسا على هذه الفكرة، يمكن القول إن ما ينقص المجتمعات العربية هو غياب عقد اجتماعي يضمن تعامل الحكام مع المحكومين بوصفهم مواطنين لا رعايا، ويحدد القواعد التي يتعين الاستناد إليها لضمان التداول السلمي للسلطة بين أطراف العملية السياسية.
ومن هذا المنطلق، أناشد الجميع تجنب رفع الشعارات وإلقاء الخطب الرنانة أو تبادل الاتهامات، وتركيز الجهد على بحث الأسباب التي حالت حتى الآن دون تمكّن المجتمعات العربية من إقامة دول حديثة، قادرة على تحقيق الأمن والتنمية وعدالة التوزيع لكل مواطنيها، وما إذا كان هذا الإخفاق يعود إلى إشكالية قائمة في بنية الثقافة العربية ذاتها تجعلها غير قادرة على استيعاب قيم التعددية والتنوع، أم إلى أخطاء في الممارسة السياسية، أم فيهما معا، أي في بنية الثقافة وفي الممارسة السياسية في الوقت نفسه.
إمعان النظر في طبيعة الاختلافات القائمة بين التيارات السياسية والفكرية الرئيسية في عالمنا العربي (..) يكشف عن حقيقة مرة، وهي أنها خلافات تدور في المقام الأول حول قضية الهوية
وأيّا كان الأمر، فإن إمعان النظر في طبيعة الاختلافات القائمة بين التيارات السياسية والفكرية الرئيسية في عالمنا العربي، وهي التيار "الليبرالي"، والتيار "القومي"، والتيار "الإسلامي"، بتنويعاتها المختلفة، يكشف عن حقيقة مرة، وهي أنها خلافات تدور في المقام الأول حول قضية الهوية وتمسها بشكل مباشر.
فالتيار "الليبرالي" يبدو متهما بالعمل على تكريس واقع "التجزئة" والقبول بالحدود السياسية "المصطنعة" بين الدول العربية، وهي حدود يعمل كل من التيار القومي والتيار الإسلامي على إزالتها وإقامة "الدولة القومية" أو "دولة الخلافة" على أنقاضها.
وبين التيار القومي والتيار الإسلامي صراعات تكاد تكون صفرية، فالأول متهم بالعنصرية، والآخر متهم بانعدام الوطنية و/أو بالتنكر للعروبة. فالإسلام بالنسبة للبعض ليس مجرّد دين موجه للعالمِين، وإنّما رابط يوحد بين كل من المنتمين إليه ويصنع منهم أمة واحدة يحق لها، بل عليها وينبغي عليها، أن تقيم دولتها الموحدة أي "دولة الخلافة".
بدت (التيارات) وكأنها تيارات استبعادية بطبيعتها؛ لأن كلا منها يسعى لاستبعاد الآخر والانفراد وحده بالسلطة
ولأن هذه التيارات الرئيسية الثلاثة (الليبرالي والقومي والإسلامي) لم تتمكن حتى الآن من العثور على قواسم مشتركة تسمح لها بالتعايش المشترك وبالتداول السلمي للسلطة فيما بينها، فقد بدت وكأنها تيارات استبعادية بطبيعتها؛ لأن كلا منها يسعى لاستبعاد الآخر والانفراد وحده بالسلطة، وهو ما تجلى بوضوح في مراحل تاريخية مختلفة، خاصة في مرحلة ما بعد "ثورات الربيع العربي" التي تبدو غنية بدروس يتعين استخلاصها والاستفادة منها.
ومن المعروف أن السنوات القليلة التي سبقت اندلاع هذه الثورات شهدت محاولات جادة لإجراء مصالحات تاريخية بين التيارات السياسية، خاصة بين التيارين القومي والإسلامي. وهي محاولات لم تقتصر على الجوانب الفكرية وحدها، كتلك التي قام بها مركز دراسات الوحدة العربية على سبيل المثال، وإنما امتدت لتشمل الممارسة السياسية أيضا.
ففي مصر، على سبيل المثال، تشكّلت حركات سياسية ضمت عناصر من مختلف التيارات للنضال في مواجهة الاستبداد، كحركة "كفاية" و"الحملة ضد التوريث" و"الجمعية الوطنية للتغيير" وغيرها، وهي حركات أدت دورا مهما في إشعال الثورة ضد نظام مبارك.
غير أنّ عجز الحركات التي توحدت في مواجهة الاستبداد عن الاتفاق على قواسم مشتركة، تسمح بتأسيس نظم سياسية بديلة أكثر ديمقراطية وأقل استبدادا من النظم التي تمكنت من إسقاط رؤوسها، مهد الطريق أمام اندلاع ثورات مضادة سرعان ما تحول بعضها إلى حروب أهلية دموية.
الحركات التي توحدت في مواجهة الاستبداد عجزت عن الاتفاق على قواسم مشتركة تسمح بتأسيس نظم سياسية بديلة أكثر ديمقراطية
إن فشل العالم العربي في إقامة دول مدنية حديثة تعتمد مفاهيم المواطنة وتكفل حقوق الإنسان وتضمن التداول السلمي للسلطة؛ كان العامل الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، ليس فقط في انهيار العديد من دوله التي نشأت إبّان الحقبة الاستعمارية، وإنّما أيضا في إخفاق كلّ مشروعات الوحدة أو التكامل السياسي والاقتصادي فيما بينها، بما في ذلك تجربة مجلس التعاون الخليجي التي ظن البعض أنها عصية على الانهيار.
وكان من الطبيعي أن يؤدي الفشل في إقامة الدولة القومية أو في استعادة دولة الخلافة إلى انهيار أسس الدولة الوطنية نفسها في العالم العربي، لتصبح القبيلة والطائفة والمذهب هي الأوعية المشكّلة لانتماء الإنسان العربي في مختلف الأقطار العربية.
لذا، أعتقد أنّ العالم العربي ليس في حاجة إلى مصالحة على طريقة بوس اللحى، وإنما إلى ردّ الاعتبار للدولة الوطنية التي يجب أن يُعاد بناؤها استنادا إلى مفهوم موحد للمواطنة، وإلى آلية موحدة للتداول السلمي للسلطة، تجمع عليها التيارات السياسية والفكرية الرئيسية.