تعيش بريطانيا أياما صعبة لم تشهدها منذ حرب السويس 1956، فلا أحد يملك حلا سحريا يخرج بريطانيا من ورطتها، بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي.
فهل قامر رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون بالدعوة للاستفتاء على خروج أو بقاء بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من تحذيرات العديد من القادة الأوربيين، ورغم استجابتهم لعدد من المطالب البريطانية المتعلقة بإصلاحات في الاتحاد الأوروبي تلبي مطالب بريطانيا للبقاء في الاتحاد؟
لم تعتد بريطانيا في تاريخها على كثرة الاستفتاءات منذ استفتاء 1975 الذي وافق فيه 67 في المئة من البريطانيين على الانضمام للسوق الأوربية المشتركة، قبل أن تتحول لما عرف بالاتحاد الأوروبي الحالي، ولكن ديفيد كاميرون اختبر عملية الاستفتاء وأعجبته، ورأى أنها تريحه من التخلص من مطالب خصومه ومنافسيه.
فعندما طرح حزب الأحرار الديمقراطيين إصلاح النظام الانتخابي كشرط للمشاركة في الائتلاف الحكومي مع المحافظين في 2010، طرح كاميرون عرض الأمر في استفتاء شعبي للاختيار بين النظام الانتخابي الحالي الذي يؤيده المحافظون، والنظام البديل المقترح، وهو ما رفضته أغلبية الناخبين بأغلبية الثلثين في مايو 2010، ليبقي النظام الانتخابي القديم رغم أنه غير عادل، وليخرج كاميرون منتصرا بفضل الاستفتاء.
ومع صعود المد القومي في اسكتلندا والمطالبات بالاستقلال عن التاج البريطاني، غامر كاميرون بالموافقة على تنظيم استفتاء في اسكتلندا في أيلول/ سبتمبر 2014، حيث صوتت الأغلبية (55 في المئة) لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة، ونجح كاميرون مرة أخرى في توجيه ضربة قاضية لدعوات الاستقلال عن التاج البريطاني.
وعندما بزغ نجم حزب الاستقلال البريطاني اليميني "UKIP" الذي يدعو لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبات يهدد مكانة حزب المحافظين ويخصم من رصيده، بعد نجاحه في الحصول على 16 مقعدا في البرلمان الأوروبي في انتخابات 2014، تفتق ذهن كاميرون للدعوة للاستفتاء حول البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي بهدف سحب البساط من تحت أقدام اليمين الذي كان يستنزف حزبه.
حيث كان يعتقد أن نتيجته مضمونه برفض الخروج، فجرى الاستفتاء في حزيران/ يونيو 2016، ولكن نتيجته جاءت على غير ما توقع بأغلبية 51.9 في المئة لصالح الداعين للخروج.
النتيجة المفاجئة كانت صادمة لديفيد كاميرون، فلم يجد أمامه سوى الاستقالة، ليترك بريطانيا أمام عملية معقدة للخروج من جملة كبيرة من الاتفاقات والالتزامات المالية والتجارية المتشابكة والحقوق المتبادلة للمواطنين، ومستقبل العلاقات السياسية والأمنية والتجارية بين بريطانيا وأوروبا.
وعلى الرغم من عدم وجود حجية قانونية تلزم بالقبول بنتيجة الاستفتاء، وفقا لما قضت به المحكمة العليا في المملكة المتحدة، في كانون الثاني/ يناير 2017، عندما طعن بعض المواطنين على نتيجة الاستفتاء حيث قالت المحكمة إن الحكومة البريطانية لا يمكنها تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تطلق آلية الخروج من الاتحاد الأوروبي، من دون تصويت مسبق في البرلمان.
بالتالي، فلم تعط لنتيجة الاستفتاء حجية لتجاوز قرار البرلمان صاحب القرار، الذي وجد نفسه أخلاقيا، رغم أغلبية الداعمين للبقاء في الاتحاد الأوروبي تحت وطأة تجنب مخالفة إرادة الشعب التي كشفتها نتيجة الاستفتاء.
الداعون للخروج من أوروبا لم يقدموا خارطة طريق محددة سوى إثارة المخاوف من الهجرة ودغدغة المشاعر بالحديث عن الهوية، وإثارة الأحقاد حول الوظائف والأجور، وقيمة مساهمات بريطانيا في موازنة الاتحاد، وإثارة الحماس حول الاستقلال الوطني وعدم وجود قانون أو محاكم تعلو على القانون والمحاكم البريطانية، بغض النظر على نتائج هذا الطلاق بعد 45 عاما من المنظومات والسياسات المتشابكة، واستغرق الأمر حتى مارس 2017 عندما قدمت بريطانيا طلبها الرسمي بتفعيل المادة 50 من اتفاقية لشبونة التي تنظم عملية الخروج من الاتحاد.
تشعبت قضايا الخلاف بين الداعمين للخروج من الاتحاد حول القضايا المتعلقة بمستقبل العلاقة بالاتحاد الأوروبي مثل السوق المشتركة، والوحدة الجمركية، ووضع الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا على ضوء اتفاقية الجمعة العظيمة التي تعطي للجمهورية الإيرلندية العضوة في الاتحاد الأوروبي رأيا في شئون إيرلندا الشمالية، وهو ما يستلزم بقاء الحدود مفتوحة بين إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية.
وبينما واجهت تيريزا ماي تشددا من الاتحاد الأوروبي الذي يريد أن يجعل من خروج بريطانيا عبرة ودرسا لكل من تراوده نفسه من أحزاب اليمين الصاعدة الآن في عدد من دول الاتحاد الأوروبي في التفكير في الخروج، فقد التزمت بريطانيا بدفع 50 مليار دولار كمساهمات في موازنة الاتحاد الأوروبي حتى خروجها النهائي بنهاية الفترة الانتقالية في كانون الأول/ ديسمبر 2020، مع فقدان حقها في خلال هذه الفترة في المشاركة في القرارات الأوروبية، ومع التزامها حماية حقوق الاوربيين المقيمين في بريطانيا مقابل حماية حقوق البريطانيين المقيمين في أوروبا.
ورغم تمكن بريطانيا بعد هذا التاريخ في التحكم في حدودها ومنع حرية التنقل التي كانت تكفلها الحريات الأربع في الاتحاد الأوروبي، ورغم انتهاء خضوع بريطانيا للمحاكم وللقوانين الأوروبية، إلا أن العديد من قضايا العلاقات المستقبلية أثارت الانقسام ودفع ستة من وزراء حكومة تيريزا ماي للاستقالة حتى الان احتجاجا على خطة الخروج التي صادقت عليها حكومة تيريزا ماي وقادة الاتحاد الأوروبي.
واعتبروا أن الشعب صوت للخروج النهائي وليس البقاء في السوق المشتركة أو الوحدة الجمركية، وأن ما يتعلق بإيرلندا الشمالية وعدم التحكم في حدودها مما يمهد لانفصالها كما يقولون ولايضمن وحدة الأراضي البريطانية.
لم يبق إلا تصديق مجلس العموم البريطاني على خطة الخروج المقرر له الثلاثاء المقبل.
بريطانيا تحبس إذن انفاسها انتظاراً لقرار كل المؤشرات تشير إلى انه سيرفض خطة تيريزا ماي التي تعاني من رفض عدد لا بأس به من نواب حزبها للاتفاق وهي لا تملك في الأساس أغلبية النواب وكانت تعتمد على دعم الحزب الوحدوي الأيرلندي الذي يملك عشرة مقاعد وهم يرفضون الاتفاقية أيضا.
أما حزب العمال المعارض فقد أعلن عن رفضه للخطة المطروحة وهم يطمحون إلى أن رفض الخطة سيفضي لسقوط تيريزا ماي وهو ما يمهد لإجراء انتخابات مبكرة.
وسط هذه الأزمة يعاني الاقتصاد البريطاني والشركات الكبرى من الضغوط نتيجة حالة انعدام اليقين، وما يمكن أن يفضي اليه الوضع من سيناريوهات خطيرة في حالة وفض الخطة المطروحة، فهل ستخرج بريطانيا في 29 مارس القادم بدون اتفاق مع ما ينطوي عليه هذا السيناريو من مخاطر شديدة؟ أم ستتفاوض بريطانيا مجددا مع الاتحاد الأوروبي على تمديد فترة التفاوض وفقا للمادة 50 من معاهدة لشبونة لحين الوصول لحل أمام الانقسام الداخلي الذي سيحتاج حتما لبرلمان جديد يحمل تفويضا محددا بإنجاز الاتفاق على الخروج؟
أم ستلتقط بريطانيا الحل الذي انطوى عليه حكم المحكمة الأوروبية بجواز عدول بريطانيا من طرف واحد عن طلبها بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة والاستمرار في الاتحاد الأوروبي؟
أم تنجح مناشدات تيريزا ماي في اللحظات الأخيرة وتأكيداتها بأنها أنجزت ما اراده الشعب في الاستفتاء، وأن هذا الاتفاق هو أفضل الممكن؟
لم يتبق الكثير على يوم الثلاثاء الكبير الذي سيقرر فيه البرلمان كيف ستخرج بريطانيا من هذه الأزمة؟
عندما غابت شمس العثمانيين عن فلسطين