في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أعلنت
تركيا أن جمال خاشقجي، الصحفي السعودي والمقيم في واشنطن والكاتب في صحيفة الواشنطن بوست والمعارض للنظام السعودي، قد قتل بعد دخوله مبنى القنصلية
السعودية في إسطنبول، وأنه تم فصل رأسه عن جسده وتقطيع جثمانه في مكتب القنصل العام، وأن الذي قام بهذا العمل فريق أمني محترف ورسمي أعد العدة خصيصا لارتكاب هذه الجريمة، وجاء إلى إسطنبول في طائرتين من القاهرة ودبي، وكان مع الفريق منشار ومواد كيماوية مذيبة للجسد.
ومعنى ذلك، أن العملية بأكملها كان مُخططا لها، وهذه الوقائع هي التي أعلنتها تركيا من واقع تسجيلات لما حدث، كما سربت تركيا معلومة خطيرة تلقفتها
المخابرات الأمريكية، والتي تثبت تورط سفير السعودية في واشنطن في الجريمة، وهو الذي أقنع خاشقجي بالسفر إلى إسطنبول للحصول على أوراق للزواج من سيدة تركية.
وقد قدمت السعودية عدة روايات للحادثة، بدأت برواية على لسان ولي العهد السعودي في حديثه لوكالة بلومبرج، حيث أكد أن جمال دخل وخرج من القنصلية بعد دقائق، وتبين أن الذي خرج هو الدوبلير الذي لبس ملابس جمال وكشفته المخابرات التركية، حتى أصدرت النيابة العامة السعودية بيانا أكدت فيه صدق الرواية التركية، وأن جمال دخل القنصلية وقُتل فيها، وأن الجريمة مخطط لها، وأن السلطات السعودية قررت تقديم كل المتهمين إلى المحاكمة، وطالبت النيابة العامة بإعدام خمسة من المتورطين بشكل مباشر في الجريمة، حسب البيان.
تفاعلت هذه القضية على المستويات الرسمية، خاصة في فرنسا وألمانيا، وانشغلت بها قمة العشرين في الأرجنتين في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وكذلك الإعلام التركي والسعودي والأمريكي. ولوحظ أن السعودية تحاول باستماته أن
تبعد الشبهة عن ولي العهد، ولكن بعض وسائل الإعلام الأمريكية وسلطات التحقيق التركية تضيق الخناق على ولي العهد.
هذه الوقائع تطرح العديد من المسائل القانونية، حتى قبل أن تعلن تركيا التفاصيل النهائية لحادث الاغتيال، بما في ذلك تورط ولى العهد بشكل مباشر في الجريمة.
المسألة الأولى: هل يمكن تصور جريمة بهذه الوحشية، نفذها رسميون من الأمن السعودي في دولة أخرى، بتعليمات مباشرة من ولي العهد وفي داخل القنصلية السعودية؟ (حسبما أعلنت الصحف الأمريكية نقلا عن المخابرات الأمريكية).
هل يُتصور أن الفريق الذي قام بالاغتيال والتقطيع خالف تعليمات رئاسته؟ إن مجرد قيام رسميين بالجريمة داخل مبنى القنصلية يقطع بأن الجريمة ليست من تدبير شخص من الفريق، ولكن يتضح أنه يعمل بتعليمات عليا، كما قال الرئيس أردوغان، لتتأسس مسؤولية الحكومة السعودية، وعلى رأسها الملك وولي عهده. وإذا كان أردوغان قد ألمح إلى براءة الملك، فإنها إشارة ذكية لإدانة ولي العهد على أساس ظروف المملكة وهيمنة ولي العهد على القرار.
فإذا أراد ولي العهد أن يفلت من المساءلة، فعليه أن يثبت بالوثائق أنه شخصيا أصدر تعليمات خالفها الفريق الأمني، وفي هذه الحالة يتركز العقاب الإداري والجنائي على الفاعلين المخالفين. ولكن هذه القضية لا يفصل فيها في هذه النقطة إلا
محقق دولي، وليس سعوديا أو تركيا؛ لأنه من السهل توفير الأدلة وصناعتها إذا تعلق الأمر بالجانب السعودي.
المسألة الثانية: هل إعدام بعض المتهمين يفلت الأمير من العقاب؟
في هذه النقطة يفترق القانون عن الشريعة الإسلامية؛ فالقانون الذي وضعه البشر يسمح بإفلات من يشاء، ولكنه وفقا للشريعة فهو يريد أن يفتدي بمن أمرهم بالقتل، فلا يتوفر الأساس الشرعي لقتلهم، ويصبح قتلهم جريمة جديدة تضاف إلى
جرائم الجانب السعودي. فعدم حسم القضية بصدق يصيب أبرياء كثرا.
على أن معاقبة المنفذ لا تغني عن معاقبة الآمر؛ لأن بداية الخيط في الجريمة هو الأمر بالقتل، ولا يمكن فك الارتباط بين الآمر والمنفذ عندما يكون المنفذ رسميا ومن الموظفين العموميين الذين يفترض أنهم يلتزمون بتعليمات الآمر، حتى ولو كان قتل الخصوم. وهذا قد يجوز في القانون السعودي، ولكنه ليس جائزا في الشريعة؛ لأنه في الشريعة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يمكن تفسير سلطة ولي الأمر في الإسلام بأنها تشمل القتل والتمثيل والتوحش الإجرامي، فقد كان يكفي أن يتم إخراج الضحية من الحياة إلى الموت دون تعذيبه أو التمثيل بجثته؛ لأن حرمة الموت تأبى هذه التصرفات المشينة.
المسألة الثالثة: تتعلق بالوضع القانوني للفريق الأمني
هذا الفريق الأمني قد يدّعي أنه تحكمه اتفاقية فيينا للبعثات الخاصة، فهذا الفريق بعثة مكلفة بمهمة محددة، وهي تصفية الصحفي السعودي في مقر القنصلية، ربما أملا في إخفاء الجريمة أو أملا في التمتع بحصانة الموقع.. ولكن الحصانات المقررة للبعثة الخاصة تدور وجودا وعدما مع مشروعية المهمة التي تقوم بها البعثة الخاصة. وبالقطع، فإن بعثات الاغتيال لا تتمتع بالحصانة ابتداءً، خاصة وأن الجريمة مرتبة ومعده سلفا، وأن أعضاء الفريق تم اختيارهم على ضوء هذه المهمة الإجرامية، وقد يبحث فريق التحقيق الدولي عن القرار السعودي الذي صدر بتشكيل البعثة وتحديد مهمتها.
ولا ينال من هذا الحكم أن الفريق الأمني يحمل جوازات
دبلوماسية، وربما تم تغطيته بألقاب دبلوماسية ودرجات دبلوماسية، بزعم أنهم ينضمون إلى طاقم البعثة السعودية في إسطنبول للعمل فيها بعض الوقت، ذلك أن الأصل هو أن فكرة المهمة الإجرامية والترتيب لها ينفي تماما أية علاقة بين هذه البعثة والبعثات الخاصة التي وضعت قواعد عملها وتشكيلها وحصانتها؛ اتفاقية فيينا للبعثات الخاصة (Vienna convention on special missions).
المسألة الرابعة: الاختصاص القضائي.. الحصانة مقابل السيادة
يتمتع مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول بحصانة المقر، بشرط أن تكون الحصانة لازمة لأداء الوظيفة القنصلية، فإذا تم الانفصال بين الوظيفة وبين لزوم حمايتها بالحصانة تسقط الحصانة؛ لأن الوظائف القنصلية محددة في اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963. وإن جاز التصرف بالزيادة أو النقص في بعض هذه الوظائف، لكن هذه الوظائف لا تشمل بالقطع استخدام مبنى القنصلية لقتل الخصوم وتقطيع جثثهم، ويترتب على ذلك أنه إذا علمت دولة المقر (الدولة المستقبلة)، وهي في هذه الحالة تركيا بحكم سيادتها على إقليمها، بما في ذلك المكان المخصص للبعثات الأجنبية.. نقول إذا علمت هذه السلطات مسبقا بأن جريمة يتم الإعداد لها في مبنى القنصلية؛ يكون لها كامل الحق في اقتحام القنصلية وإسقاط الحصانة ومنع الجريمة إن أمكن، كما يجوز لها القبض على كل الحاضرين، حتى وإن كانوا من العاملين الدبلوماسيين بالقنصلية؛ لأنهم يتم القبض عليهم بالجرم المشهود (Red handed).
وخلاصة القول، أنه لا حصانة لمكان أو شخص طرف في عملية إجرامية، ولا يجوز التستر بالحصانة لارتكاب بهذه الجريمة
وربما قصدت السلطات السعودية أن يتم القتل في داخل القنصلية في حماية الحصانة الدبلوماسية، ولكننا أوضحنا أن الفريق الامني القادم خصيصا للقتل لا يتمتع بالحصانة، وأن مقر القنصلية لا تغطي حصانته هذا العمل، وحيث لتركيا السيادة، فلا تقف الحصانة قيدا على السيادة.
والعلاقة بين السيادة والحصانة يجب توضيحها. فالسيادة هي: إطلاق قدرة الدولة وسلطاتها على أراضيها وعلى المقيمين فيها، بضوابط مختلفة.
وأما الحصانة فهي: كف يد الدولة صاحبة الأرض عن عرقلة وظائف البعثة المعترف بها دوليا.
ولذلك، فإن انحراف البعثة عن وظائفها يجعلها عارية عن كل حصانة، ولا تجد مظاهر السيادة مانعا من أن تمتد بإطلاق إلى مبني القنصلية، فيجوز تفتيشه وإخلاء الموظفين منه وتصويره وتنظيم الدخول إليه.
وبهذه المناسبة، تجدر الإشارة إلى أن حرص الدولة على قيام البعثات الأجنبية بواجباتها على أراضيها، يسمح لها بمراقبة عمل هذه البعثات، بشرط ألا تؤدي المراقبة إلى تعويق عمل البعثة. فيجوز للدول المستقبلة أن تتأكد بكل الوسائل الممكنة من أن سيادتها لا تنتهك تحت ستار الحصانة الدبلوماسية، وهذه المساحة أثراها العمل الدولي عندما تباينت سلوكيات الدول للتوفيق بين السيادة والحصانة، ولكن المقطوع به أن كل من ارتكب جريمة قتل خاشقجى داخل القنصلية وخارجها يخضع للاختصاص القضائي لجمهورية تركيا.
وعلى الجانب الآخر، قد ترى السعودية أن القاتل سعودي والمبنى سعودي، وأن القضاء والقانون السعودي يسودان ويمنعان القانون القضائي التركي. وهذا زعم - إن صح - يخرج تماما عن إطار القانون الدولي في أي عصر. وللأسف، فإن دول العالم الثالث تعتقد أن قتل المواطنين في أي مكان هو رخصة للحاكم، ما دام الحاكم يزعم بأنه يدافع عن الوطن ضد خصوم الحاكم، وهم بالضرورة خصوم الوطن، بعد أن حل الحاكم نفسه محل الوطن وتلبس به.
وقالت السلطات السعودية إن ما حدث شأن داخلي، ولا يجوز تدويله، بحسب تصريحات وزير الخارجية السعودي. وهذا يخالف الواقع، حيث القضية بدأت دولية ولا تملك السعودية حصرها في إطار سعودي؛ لأنها ببساطة تمت على أرض أجنبية، حيث تنادى غير المتخصصين بأن البعثة سعودية في مبنى تملكه السعودية، وتمتد إليه السيادة السعودية، وهذا خطأ فادح، فالمبنى ملك للسعودية والأرض للسيادة التركية، فلا تملك السعودية سوى التصرف في المبنى بيعا أو ترتيبا، أما ما يقع فيه من جرائم فيختص به القاضي التركي.
المسألة الخامسة: تتعلق بمدى وجود تنازع في الاختصاص القضائي بين تركيا والسعودية
تطالب تركيا بمحاكمة المتهمين السعوديين
أمام محاكمها، وتصر السعودية على أن هؤلاء المتهمين موظفون رسميون كانوا في مهمة رسمية ويتمتعون بالحصانة، وهذه المهمة الرسمية هي إقناع الصحفي السعودي بالعودة إلى السعودية، ولكن تطور الخلاف بين الطرفين هو الذي دفع الفريق الأمني إلى قتل المنشق السعودي، وهو قتل خطـأ من فريق رسمي يتمتع بالحصانة، ولذلك يختص القضاء السعودي بالمحاكمة، وهذا مضمون بيانات النيابة العامة السعودية.
هذه النظرية مردود عليها باعتراف النيابة العامة بأن القتل كان مدبرا، ولم يكن تطورا عرضيا، وأن الاستعداد له بكل أدواته كان في الحسبان، وأن بيانات النيابة السعودية تناقض نفسها، مثلما تتناقض الروايات الخمس السعودية المتوالية.
ومعنى ذلك، أنه ليس هناك تنازع في الاختصاص القضائي، إنما هناك القضاء التركي الوحيد المختص. ولكن إذا كانت تركيا تعلم يقينا أن ولي العهد هو الذي أمر بالقتل، فلماذا تصر على محاكمة المنفذين؟
أغلب الظن أن تركيا تهدف من المحاكمة ليس إلى إثبات أنهم هم الذين قتلوه أو تحديد نسبة المساهمة الإجرامية، ولكن لاستكمال الدور الحقيقي للأحداث عن طريق الاعترافات والتحقيقات، وصولا إلى الآمر الحقيقي بالقتل ونقل الافتراض إلى معلومات. فيجوز أن يكون الآمر أحد المقربين من ولي العهد، ولكن المعلومات يمكن أن تثبت أنه هو من أمر بالقتل.
وفي كل الأحوال، إذا ثبت ذلك، فإن القضية القانونية ستتخذ منحى جديدا، فقد لا يختص القضاء التركي بمحاكمة ولي العهد الذي يتمتع بحصانة الدولة وليس الحصانة الدبلوماسية. ونظن أن اعتقاد تركيا بهذه النتيجة هو ما دفعها إلى المطالبة بإجراء تحقيق دولي في القضية، يتجاوز الاختصاص الوطني، كما لا يتوقع أن يُحاكم ولي العهد في السعودية.
المسألة السادسة: القضية على المستوى الدولي
ما دامت الجريمة قد وقعت على أراض تركية وفي مبنى رسمي سعودي، وقام بها فريق أمني رسمي بتخطيط مسبق، فتنعقد المسؤولية الدولية على السعودية، ويجوز لتركيا أن ترفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية؛ لأن هذه الجريمة تعتبر انتهاكا مباشرا لقواعد القانون الدولي ولسيادة تركيا. ولأن هذه الحادثة ستظل حادثا تاريخيا، فإن تركيا قد تجد غضاضة من الناحية السياسية في رفع هذه الدعوى.
المسألة السابعة: مدى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة القتلة
الجريمة تقع ضمن الجرائم التي تختص المحكمة بنظرها، وهي ضمن الجرائم ضد الإنسانية؛ بما اشتملت عليه من استخدام حصانة البعثة والحصانة المفترضة للفريق الأمني، والبشاعة التي تمت بها الجريمة، والتضليل الذي اكتنف الموقف السعودي لإفلات ولي العهد، ولكن السعودية ليست طرفا في نظام روما، وتركيا طرف، ولكنها قد تترد في تقديم الطلب إلى المحكمة.
ولذلك، ربما كانت مطالب تركيا بالتحقيق الدولي لإعفائها من هذا الحرج؛ لأن التحقيق الدولي الذي تقوم به مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؛ يستطيع أن يعرض على المحكمة، وأن يكون دافعا للمدعي العام بالتحقيق في القضية. وفي هذه الحالة، لا يهم أن تكون السعودية ليست طرفا في النظام، وبالطبع فنحن نستبعد أن تصل القضية إلى مجلس الأمن، وأن يصدر فيها قرار بإحالتها إلى المحكمة، على غرار ما حدث مع الرئيس السوداني عمر البشير.