قبل حوالي شهر من الآن،
أعلن زعيم حزب
الحركة القومية في
تركيا دولت بهشتلي عن
عدم رغبة حزبه في تأسيس تحالفانتخابي مع حزب
العدالة والتنمية في
الانتخابات المحلية/البلدية في آذار/مارس المقبل. حدة كلام
الرجل واحتفاء نواب حزبه في البرلمان به أوحيا بهزة كبيرة تعرض لها "تحالف
الشعب" أو الجمهور الساري بين الحزبين منذ ما يقرب على ثلاث سنوات، والذي
ترسّم قبيل الانتخابات الأخيرة.
يوم الأربعاء الفائت، التقى
أردوغان وبهشتلي بناء على دعوة الأول لنقاش إمكانات التحالف في الانتخابات
المقبلة، بعد أن قال الرئيس التركي ورئيس حزب العدالة والتنمية بأن "رغبة قواعد
الحزبين" تصب في هذا الاتجاه. ويبدو أن اللقاء سار بإيجابية، ليخرج بعده
الناطق باسم العدالة والتنمية عمر تشيليك ويعلن عن "مرحلة جديدة" في
الإعداد للانتخابات بين الحزبين، دون أن يعطي المزيد من التفاصيل.
فما الذي حصل خلال الشهر
الحالي ليتغير موقف الحزبين من التحالف الانتخابي؟
ثمة رأيان سائدان بهذا الخصوص،
ويغلب على ظني أن كليهما حاضر، وأنهما يكملان بعضهما البعض.
الأول، هو تأثير اللقاءات
التي أجرتها المعارضة التركية، تحديداً حزبا الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة و"الجيّد"
المنشق عن الحركة القومية، والتي يبدو أنها كانت إيجابية بدورها، وتنبئ عن تنسيق
بدرجة أو بأخرى بينهما، خصوصاً في المدن الكبرى المهمة وذات الرمزية، مثل أنقرة
وإسطنبول، فضلاً عن لقاءات مرتقبة بين حزبي الشعب الجمهوري والسعادة (والذي جرى
اليوم الاثنين بالمناسبة) لمحاولة ضم الأخير لهذا المسار التنسيقي.
ذلك أن توافق هذه الأحزاب
على صيغة تفاهم وتعاون بخصوص الانتخابات البلدية المقبلة، في ظل خلاف العدالة
والتنمية والحركة القومية، يضر بمصالح الأخيرَيْن، بحيث يمكن أن تتعرض فرص الأول
في بلديات مثل أنقرة وبدرجة أقل إسطنبول لخطر الخسارة، بينما يمكن أن يتفوق الحزب
الجيد على الحركة القومية في أول انتخابات بلدية يخوضها بعد الانشقاق عنه، وهو خط
أحمر بالنسبة للأخير.
الرأي الثاني يرى بأن
اللهجة الحادة جداً التي استخدمها بهشتلي، والتي تضمنت لأول مرة منذ سنوات هجوماً
على أردوغان، كانت مقصودة لرفع سقف التفاوض وتعظيم مكاسب حزبه من أي تعاون مفترض،
فضلاً عن حرص بهشتلي على عدم ظهور حزبه بمظهر المستجدي للتعاون والتحالف بينما
يتمنع العدالة والتنمية، وهو مما يفسر جوابه حول مضمون لقائه مع أردوغان؛ بأن
"صاحب الدعوة هو من يحدد الأجندة".
بكل الأحوال، يبدو أن
الحزبين قد أقرا رغبتهما في التعاون في الانتخابات، فما هو شكل هذا التعاون وسقفه
وانعكاساته عليهما؟
ما زالت فكرة التحالف
الشامل في كافة البلديات التركية، لانتخاب رؤساء بلديات ومجالس بلدية في 83 محافظة
ومئات الأقضية أو أحياء المدن الكبرى، أمراً بعيد المنال، وأعقد من أن يمكن
الاتفاق حوله بشكل كامل، فضلاً عن الاختلافات الجوهرية بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية
من جهة، والمحلية من جهة أخرى، بما يجعل التوقع بهذا الاتجاه غير واقعي إلى حد
بعيد.
فما الممكن أو المتوقع إذن؟
هناك احتمالات كثيرة ممكنة
تقع على طول الخط الممتد بين طرفيه، أي القطيعة أو التحالف الكامل، يمكن أن يلجأ
لها الطرفان. بل من الممكن القول إنهما لم يصلا بعد لرؤية نهائية حول كيفية
التعاون والتنسيق وحدودهما في الانتخابات المقبلة، في انتظار وضع العديد من
العوامل على طاولة البحث والتفاوض، مثل استطلاعات الرأي ومرشحي المعارضة المحتملين
ورأي كوادر وأنصار الحزبين... الخ.
بهذا المعنى، فقد اتفق
الحزبان على فكرة التعاون والتنسيق بشكل مبدئي، على أن يبلورا التصور النهائي معاً
في لقاء مرتقب بين الزعيمين، بعد أن تجري الشخصيات القيادية التي فرزت منهما
دراستها وبحثها في الموضوع.
من السياقات الممكنة في هذا
الإطار: عدم الترشيح في بعض المواقع لرفع فرص الطرف الآخر، كما فعل حزب الحركة
القومية الذي أعلن عن عدم تقديمه مرشحين له
في بلديات أنقرة وإسطنبول وإزمير (حيث
لا يملك فرص الفوز طبعاً)، وهي خطوة يقصد منها تعظيم فرص مرشحي العدالة والتنمية
في تلك البلديات الكبرى، مقابل مرشحي الشعب الجمهوري والمعارضة. كما أن العدالة
والتنمية قد يقدم على شيء مشابه من طرفه لدعم فرص الحركة القومية في بعض المدن (خاصة
وسط الأناضول)، رغم أن سياساته المعلنة والمعروف عنه دائماً وتصريحات قياداته؛
كلها تصب في معنى "تقديم مرشحين في كل المواقع".
السياق الآخر الممكن هو
تقديم مرشحين لا يملكون فرص الفوز في بعض المواقع لنفس الهدف، وهو أمر معتاد في
الانتخابات البرلمانية والمحلية بين مختلف الأحزاب.
أما السياق الثالث الممكن
أيضاً على نطاق واسع، فهو التعاون على مستوى القواعد والناخبين، وليس على مستوى
المرشحين، بمعنى أن يكون هناك توجيه للناخبين لدعم مرشح أحد الحزبين في بعض
البلديات. هذا السيناريو يحمل مخاطرة كبيرة، حيث لا يمكن ضمان تصرف الناخبين
وقراراتهم في لحظة الانتخاب عند الصناديق، لكنه سيناريو يتوافق مع التصرف التلقائي
للناخبين عادة، حيث يوازنون بين المرشحين المختلفين ومآلات الأمور والنتائج
المتوقعة والانتماءات الحزبية والخلفيات الشخصية للمرشحين، وعوامل أخرى كثيرة لدى
اتخاذهم القرار.
في المحصلة، وإن لم يبلور
الحزبان بعد رؤية نهائية حول كيفية التعاون وسقفه في الجولة المقبلة، إلا أنهما
متفقان على مبدأ التنسيق بحيث يؤمن كل منهما مصلحته، فيفوز العدالة والتنمية في
المدن الكبرى المهمة وبالعدد الأكبر الممكن من البلديات الأخرى، بينما يحتفظ حزب
الحركة القومية بما لديه من بلديات (وربما زاد عليها)، ويتقدم على غريمه الحزب
الجيد بفارق واضح.
ارتدادات هذا التوافق بدأت
سريعاً، حيث
امتنع أردوغان عن إعلان أسماء مرشحي حزبه عن المدن الثلاث الأكبر
والأهم (أنقرة وإسطنبول وإزمير) يوم السبت الفائت، كما كان متوقعاً ضمن 40 محافظة
أعلن عنها، ويتوقع أن يحصل ذلك يوم غد الثلاثاء أمام كتلة حزبه البرلمانية. وهو
قرار يوحي بمزيد من التنسيق (واحتمالات ضئيلة لتغيير بعض الأسماء في اللحظة
الاخيرة) ليظهر هؤلاء وكأنهم مرشحو كلا الحزبين، باعتبار أن حزب الحركة القومية
امتنع عن الترشيح في هذه المدن.
أما على صعيد النتائج، ورغم
أن الوقت ما زال باكراً جداً للحديث عنها قبل أربعة أشهر من الاقتراع، وقبل اتضاح
أسماء باقي المرشحين وأشكال التحالف بين الأحزاب، إلا أنه يمكن القول اليوم إن
التعاون والتنسيق مع الحركة القومية سيضمن للعدالة والتنمية بدلية إسطنبول الكبرى
إلى حد كبير، ويرفع فرصه كثيراً في أنقرة )فرصه في إزمير ضعيفة فهي قلعة تقليدية للشعب الجمهوري(،
خصوصاً وأنه سيقدم أسماء كبيرة من قياداته فيهما، وهما رئيس الوزراء السابق ورئيس
البرلمان الحالي بن علي يلدريم، والوزير الأسبق ونائب رئيس الحزب الحالي محمد
أوزحسكي.
في كل الأحوال، ما زالت
لعبة الشطرنج بين الأحزاب التركية قائمة، وستعتمد الكثير من القرارات والتوجهات
على قرارات وتوجهات الطرف المقابل، بينما يتوقع أن تستكمِل كافة الأحزاب قوائم
مرشحيها ومنظومة تحالفاتها (أو عدمها) في الأسبوع الأول، وربما الثاني، من كانون
الأول/ ديسمبر المقبل.