ليست المرة الأولى التي تبتلى فيها أمّة الإسلام بمن يتستر براية التوحيد لطعنها وتقويض بنيانها وتشويهها والتنفير من الانضواء تحت لوائها؛ ففي فترة مبكرة جدا، وفي حقبة زمنية فارقة اقتربت فيها دولة الإسلام من توطيد دعائمها وبسط نفوذها، خاصة بعد الفتح المبين لمكة المكرمة، لجأ المنافقون إلى حيلة خبيثة ما كان للمسلمين أن يسلموا من آثارها المدمرة، لولا نزول الوحي الإلهي لإبطالها ووأدها في مهدها، وذلك عندما تداعى المنافقون إلى بناء مسجد الضرار.
إنه مسجدٌ يذكر فيه اسم الله إذن، مسجدٌ يرفع الأذان فيه، ويصدح بشهادة التوحيد تملأ الآفاق، فلا مجال لأحد أن يعترض على وجوده أو يشكك فيه، أو هكذا يفترض أن يكون. ولكن ماذا إن كان كل الذين يقصدونه منافقين مغموص عليهم النفاق، لا عمل لهم إلا الهمز والغمز واللمز في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه من المؤمنين والمؤمنات؟
مسجد يأوي في جنباته المتخلفين عن الغزو، والمشككين المرجفين المتواطئين مع اليهود، وأصحاب الألسنة الحداد يسلقون بها المؤمنين، المتخلفين عن الغزوات، المتكاسلين عن الصلوات، المختفين وقت الملمَّات، البخلاء بالمال والأعطيات.
إنَّ الذي تسجد الجباه له، وتلهج الألسن بتوحيده هو الذي أنزل الأمر الحاسم بإبطاله وتحريم الصلاة فيه تحريما مطلقا بقوله: "لا تقم فيه أبدا". وكان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هدمه وحرَّقه ونهى عن الانتفاع بشيء مما بقي منه، مبالغة في التنفير منه.
وهكذا شأن كل دعوى باطلة مغلفة بقشرة خادعة، تتلبس بلباس الإسلام ومفرداته العظيمة كي تصرف الناس عن حقيقة الذين يقفون خلفها، الغافلين عن حقيقة راسخة تمتد عبر الزمان والمكان، أن أولئك "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون".
شهدنا في زماننا هذا من تآمر على الخلافة العثمانية وتحالف مع المستعمر الإنجليزي لهدمها والقضاء عليها، ومن ثمّ الاستئثار بأرض الحرمين الشريفين، والإعلان عن مملكة تُطوِّع كل من قهرته بالسيف للانتساب إلى العائلة الحاكمة، فما عاد هناك نجدي ولا حجازي ولا مكي أو مدني، كلهم باتوا ينسبون رغم أنوفهم إلى شخص يقال له سعود!!
منذ اللحظة الأولى لقيامها، وخيرات تلك الأرض المباركة محتكرة لأعداء الأمة، والمواقف السياسية الصادرة عنها تمرّ عبر مرشحات (فلاتر) أمريكية دقيقة جدا، تضمن إبقاءها في دائرة المواقف الجوفاء غير المؤثرة، مع وضع آلية صارمة لتصويب أي ابتعاد عن المسار الذي أريد لها، وصلت إلى حد القيام بتصفية الملك فيصل على يد أحد أبناء أسرته، لشبهة تعاطفه وتفاعله مع قضية فلسطين والمسجد الأقصى.
ومنذ اللحظة الأولى تم إضفاء هالة من القداسة على حكم تلك العائلة بتحالفها مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتوظيف أعماله وجهوده لتثبيت هيمنتها على مقاليد الأمور، مع الإبقاء على فجوة كبيرة بين ما ينادي به الشيخ، والواقع الذي رسّخه حكام أسرة سعود، ليكون الدِّين مجرد أداة فقط لتطويع كل من يفكر بمخالفة نهجهم أو الاعتراض على ممارساتهم أو مجرد مخالفتهم بالرأي، وهو أداة أيضا للتغطية على أية مواقف متخاذلة تجاه الأعداء، أو عدوانية تبيح سفك الدماء وقطع أواصر الإخاء.
ذلك التحالف جسَّده سيف طويل قاطع لأسرة سعود، وشهادة توحيد ابن عبد الوهاب على علم الدولة. أما محمد بن عبد الوهاب فمضى إلى ربه، وبقيت دعوته تحت وصاية أسرة سعود التي أوكلت أمرها في النهاية إلى "المداخلة" و"الجامية" الذين تبنوا نهجا "انبطاحيا" لما يجب أن يكون عليه، ما يمكن تسميتهم مجازا برجال الدين تجاه الحكام، وهو يعتمد بالكلية على الولاء الكامل لملوك وأمراء تلك الأسرة، وإضفاء هالة من القداسة عليهم وتحريم الخروج عليهم بأي حال من الأحوال، مهما ظهر منهم من ظلم وجور واستبداد وانحراف. وأفتوا بعدم جواز نصحهم على العلن حتى لو اقترفوا أشنع الموبقات. وقد ظهر عمليا كيف تم تغيير الفتاوى تبعا لرغباتهم، وتم تكفير وتفسيق وتبديع كلّ من يخالفهم أو يدعو للخروج عليهم، وتصوير حكمهم على أنه حكم راشد تطبق فيه قوانين الشريعة الإسلامية ويحكم فيه بالقرآن والسنة، وأن على كل مسلم في الكون أن يحبهم ويدعو لهم ويدافع عنهم؛ لأنهم يحكمون ما أسموه "دولة التوحيد والسنة" التي ترفرف فوقها راية التوحيد خفاقة.
وتحت راية "لا إله إلا الله" التي لا شيء أعظم منها، تهان النفس الإنسانية وتسلب حقوقها ويعامل الناس كالعبيد المسلسلين بقانون الكفيل، ويُشوَّه الدّين وتنتهك الخصوصيات ويزجّ بالعلماء إلى غياهب السجون؛ يعذَّبون ويحاكمون بعيدا عن الأنظار، ويقتل البشر بأبشع طريقة داخل مقرات البعثات الدبلوماسية، كما حصل مع جريمة قتل الإعلامي المغدور جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في اسطنبول، تلك الجريمة التي اقشعرت لهولها الأبدان، وهزت فظاعتها المدن والبلدان. وما يزال العالم يقف على رجليه مذهولا من مخزون السادية والوحشية في نفوس أولئك القتلة، الذين جعلوا من الدين ستارا، ومن شعار الإسلام دثارا لإجرامهم وبغيهم واستبدادهم.
فإذا كانت كل هذه البشاعة التي تمارسها أسرة سعود يغطيها علم أخضر موشى بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن على علماء الأمة وشرفائها أن يتداعوا للذَّوْد عن شهادة التوحيد التي امتهنها من لا يهمه سوى تثبيت حكمه وكرسيه.
على الأمة بأسرها أن تنأى بنفسها عن نسبتهم إليها، فضلا عن تصديرهم بأنهم حماة أهل السنة. إنهم أولئك الذين ارتكبوا جريمة لا تقل خطرا عن جريمة استخدام داعش لشهادة التوحيد غطاء للهمجية والوحشية واللاإنسانية.
إنهم الذين لا يرعوون عن استخدام مفردات الدين لأغراضهم الشخصية البائسة، لامبالين بأنهم يقفون - من حيث يعلمون أو لا يعلمون - في مربع الأعداء الألدّ والأشدّ لهذا الدين، وأنهم بذلك يعرضون أنفسهم وأتباعهم لسخط الجبار المنتقم، الذي يوشك أن يزيل دولتهم ويستأصل شأفتهم بظلمهم لأنفسهم.
فات أولئك الذين اتخذوا من شهادة التوحيد راية للضرار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمُرُك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع، لو وضعت في كفَّةٍ، ووضعت لا إله إلَّا اللهُ في كفَّة، رجَحت بهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولو أنَّ السَّموات السَّبع والأرضين السّبع كُنَّ حَلقةً مُبْهَمة، قَصَمَتْهُنَّ لا إلهُ إلَّا اللهُ".