لم يكن خطاب الرئيس التركي "رجب طيب أردغان" أمام البرلمان التركي مقنعا للكثير من المراقبين العرب خاصة والأجانب عامة. فقد حفل الإعلام التركي قبل الخطاب بأيام بالتأكيد على أن الرجل يحمل في خطابه الحقيقة النهائية والجواب الأخير لواحدة من أبشع جرائم النظام الرسمي العربي في حق الإعلام وأهله. وانتظر العرب وغيرهم خطاب الرجل لكنه كان مخيبا للآمال لأنه لم يصدع بما يعلمه القاصي والداني عن الجريمة وعن مرتكبيها وعن حيثياتها المفزعة.
دبلوماسية نادرة
كثيرون رأوا في الخطاب عمقا سياسيا ودبلوماسية نادرة غابت عن الجميع فبرعوا في قراءة ما بين الكلمات والمصطلحات والجمل والتراكيب التي حواها كلام الرئيس الأشهر في المشرق الكبير. أهم الخلاصات رأت فيما قاله تمهيدا للضربة القاضية التي لن تتأخر ورأى آخرون أن الرجل بصدد تصفية الحساب مع أعدائه بدهاء ومكر وصبر يفوق درجة التشويق في الأفلام والمسلسلات التركية التي منعتها التلفزة
السعودية ذات يوم.
لكن كل التبريرات لم تكن مقنعة بحسب طبيعة السياق وبسبب بشاعة الجريمة ورمزية المغدور الكاتب جمال
خاشقجي. هذا الأمر هو الذي دفع كثيرين إلى الشك في وجود
صفقة على حساب دم الرجل وهو أمر غير مستبعد بحسب طبيعة التحركات والتصريحات التي سبقت خطاب الرجل أو تلك التي لحقته.
فقد قامت
تركيا بإطلاق سراح القس الجاسوس الذي كان سجينا لديها ثم لحقها غزل صريح من الرئيس الأمريكي نفسه قبل أن تتالى الزيارات السرية والعلنية بين واشنطن وأنقرة في علاقة وثيقة بملف الجريمة. بعد كل ذلك يصدر غزل من نوع آخر بين ولي عهد السعودية المتهم الأول في جريمة تصفية خاشقجي وبين الرئيس التركي ثم يعلن الأول عن متانة العلاقة التي تربط بين البلدين بفضل حكمة الرجل.
هذا الوضع الجديد يشي بأن صفقة ما أبرمت أو هي بصدد الإبرام بين بلد الفقيد من ناحية أولى وبين مسرح الجريمة من ناحية ثانية، خاصة إذا علمنا أن تركيا وأجهزتها تملك كل المعطيات عن الجريمة بالصوت والصورة بخلاف كل ما رشح إلى وسائل الإعلام المحلي والدولي. لكن أمرا أساسيا يبقى مفقودا إلى حد كتابة هذه السطور وهو المتعلق بجثمان الشهيد نفسه بعد أن أقر الجميع بأنه ذُبح وقطّع جسده بعد الجريمة. فأين الجثمان؟ دون الجثمان تبقى كل الأسئلة معلقة وتبقى تفاصيل كثيرة دون جواب حقيقي.
حسابات تركيا
لكن من جهة أخرى أليس من الحيف والظلم أن نطالب الأتراك بأكثر مما فعلوا؟ هل يمكن أن يكونوا أكثر ملكية من الملك نفسه؟ لماذا سينتصر الأتراك لقضايانا ويتركون مصالحهم جانبا؟ أليس منطق الدولة مختلفا عن منطق الفرد وعن منطق الجماعة نفسها؟
من حق تركيا أن تراعي مصالحها قبل أن تحتكم إلى العاطفة أو إلى العنتريات التي يعشقها العرب خصوما كانوا أم حلفاء. ومن حق تركيا أن تستغل هذه الفرصة النادرة التي جاءتها على طبق ذهبي ولم تكن تنتظرها لتحقق بها أعلى المصالح والمكاسب. كل هذا من حق الأتراك سياسيا وسياديا فأين المشكل إذن؟
المشكل الأساسي يتقاسمه العرب والترك. فالعرب كعادتهم عبر تاريخ هزائمهم الثقيلة يبحثون عن الزعيم المفقود والبطل المغوار والمهدي المنتظر والقائد المخلص الذي يرفض أن يأتي وهم يرون في أردوغان هذا البطل وهذا الخليفة القادر على إحياء أمجادهم من رماد الانكسارات والهزائم. أما الأتراك فقد نجحوا في تحقيق معجزة اقتصادية حقيقية جعلت منهم قوة يحسب لها ألف حساب وهي ككل قوة تحتاج إلى التمدد وإلى التوسع. ولم يكن في مقدور العقل الاستراتيجي التركي أن يجد مجالا أفضل لتوسعه من المجال العربي المطبوع بالانقسامات والدسائس والمؤامرات التي لا تنتهي.
فأوروبا ترفض التحاق اللاعب التركي بناديها وكذلك تفعل روسيا المتمددة في المجال العربي عبر البوابة السورية على أنقاض مجازر الأسد في حق شعبه وثورته. وهكذا لم يبق للترك من خيار إلا الخيار القديم بإحياء الإرث الإمبراطوري للدولة العثمانية في مزرعته القديمة وهو أمر مفهوم سياسيا ومبرَّر استراتيجيا. لتركيا الحق في التمدد والتوسع في كل مجال قابل لهذا التمدد غير محقق لشروط سيادته الخاصة به عاجز عن لملمة أطرافه وبناء نفسه. فكيف يكون من حق الفرس غزو العواصم العربية بالسلاح وبثأر الحسين في حين تقف تركيا مراقبة للكعكة العربية وهي تقتسم أمامها؟
دليل بؤس
لا نلوم تركيا ولا إيران ولا حتى روسيا فهذا منطق الدول ومنطق التاريخ منذ نشأة الدولة وبداية التاريخ لكن كل الجريمة إنما تتمثل في توحش النظام الرسمي العربي نفسه الذي جعل الأرض مستباحة والدم مستباحا والسيادة مستباحة. إن جريمة
اغتيال خاشقجي دليل على بؤس النظام العربي وعلى دمويته الصارخة لكنها أيضا دليل على ما يمثله هذا النظام من خطورة على الوجود العربي نفسه وقد صار مهددا بالغزو والانهيار.
كل الوقائع تؤكد على أن دم الرجل قد تبخر بين أروقة الصفقات والحسابات السياسية التي لا تعترف بالمبادئ والأخلاق إلا ما ندر. قد لا نلوم تركيا ولا الحاكم العربي الموغل في دماء شعبه فهذا دأبه وعادته لكن كل اللوم إنما يقع على عاتق الشعوب والنخب التي لا تزال ترضى بأن تُلغى من حساب السياسة والتاريخ. إن بقاء النظام السياسي العربي بالشكل الذي هو عليه اليوم يجعل المنطقة وشعوبها رهينة الحسابات الدولية وحبيسة الصفقات الضخمة وضحية العجز عن صناعة تاريخها دون زعيم ملهم أو بطل خارق أو قائد أوحد. رحم الله جمال خاشقجي وربط على قلب أهله وأسكنه فسيح جنانه بما كتبت يداه.