بـ "هروب" محمد العتيبي، القنصل السعودي بإسطنبول، الذي لم تترك فرق التحقيق التركية ركنا من بيته دون التفتيش فيه عن دلائل إضافية عن مساهمته الرئيسية في قتل المغدور
جمال خاشقجي بعد أن تسرب للصحافة ما يؤكد حضوره الشخصي لعملية الذبح وتقطيع الجثة على أنغام الموسيقى، يكون القنصل قد لفّ الحبل على عنقه في انتظار سماع الأخبار عن موته نحرا أو انتحارا باعتباره العلبة السوداء الأشهر للجريمة الشنعاء.
في التاسع والعشرين من شهر تشرين أول/ اكتوبر من العام 1965، نجحت المخابرات المغربية، بالتعاون من أجهزة عالمية أخرى وعملاء لها في الشرطة وأمن المطارات الفرنسية، من استدراج المعارض المغربي المهدي بنبركة إلى باريس ومن ثم اعتقاله من أمام مقهى ليب الذي كان آخر مكان شوهد فيه بمعية رجال شرطة فرنسيين. بعدها اختلفت الروايات من قائل أنه اختطف وجلب الى المغرب حيث تمت تصفيته وتذويب جثته، وقائل أنه نقل الى منزل بالضاحية الباريسية، حيث شهد فصول تعذيب بحضور وزير الداخلية وقتها محمد أوفقير قبل أن يسقط صريعا بالخطأ بالنظر إلى أن الهدف من اختطافه كان إجباره على العودة إلى المغرب، وهو ما عبر عنه الملك الحسن الثاني وقتها بأنه كان بحاجة إلى أستاذه في الرياضيات لحل مسألة سياسية معقدة بالبلد.
الأكيد في الموضوع أن المهدي بنبركة اختفى من يومها وأدى لأزمة سياسية بين فرنسا دوغول ومملكة الحسن الثاني لم تستمر طويلا حتى عادت المياه إلى مجاريها مغلبة المصلحة على دماء المهدي. أكثر من أربعين سنة مرت على الحادثة دون الوصول إلى الحقيقة الكاملة. لكنها بالمقابل لم تسمح بنسيان القضية التي يداوم أبناء الضحية وداعموهم على التذكير بها سنة بعد أخرى.
وعلى مر السنوات، توالت "اختفاءات" الضالعين والشهود على جريمة "اغتيال" المهدي بن بركة. في شهر كانون ثاني/ يناير 1966، وُجِد جورج فيغون، الذي شكل الطعم الذي أسقط بنبركة في الفخ، ميتا بشقة بباريس سُجلت انتحارا. جورج فيغون هو الذي فضح قضية الإختطاف على صفحات إحدى الصحف الفرنسية وكان سببا في إخراجها للعلن وتحويلها لقضية دولة بامتياز.
وفي العام 1971، وُجِد التهامي الزموري، الذي كان مرافقا للمهدي لحظة اختطافه وأعلم عائلته بالأمر، معلقا بحبل داخل شقته الباريسية فسجلت وفاته انتحارا.
بعدها بسنة "انتحر" الجنرال أوفقير بخمس رصاصات بعد فشل محاولته الانقلابية على الحسن الثاني، ثم تلاه رجال الشرطة الفرنسيين الأربعة المشاركين في العملية، وهم الذين اختاروا اللجوء بالمغرب قبل أن يسجنوا أولا ثم يقتلوا بعد أن صاروا عبئا على المضيفين.
أما أحمد الدليمي، مدير الأمن الوطني وقت اختطاف بنبركة، فمات في حادث سيارة بضواحي مدينة مراكش بداية ثمانينيات القرن الماضي ليكتمل عقد اختفاء المشاركين الفعليين الذين وردت أسماؤهم في محاضر المحاكمة التي عاشتها فرنسا على إثر "الفضيحة"، واستمرت تسعة أشهر كاملة في شهر أيلول/ سبتمبر من العام 1966.
في القنصلية
السعودية التي دخل إليها جمال خاشقجي ولم يخرج على رجليه، شاهد ملك تحول بيته لمقر اجتماع لـ "قتلة" وربما مكانا لدفن "جثة" المغدور. محمد العتيبي، القنصل السعودي بإسطنبول، الذي بدا مرتبكا، وهو يتجول مع مراسل وكالة رويترز بمقر القنصلية، وكأنه يكتشف أركانها وأدراجها لأول مرة خائفا من ظهور دليل جنائي على عملية قتل "مفترضة" متهم بالمشاركة فيها أو على الأقل حضور مجرياتها.
انصرف كثير من الكتاب والمحللين إلى البحث في السيناريوهات المحتملة والجري وراء التسريبات المتناقضة وتحليل الأسباب والدوافع وتناسوا التركيز على قنصل يعد المسؤول الأول والأخير على مسرح "الجريمة" ويعرف عن الموضوع أكثر من أي شخص آخر في الوجود. بقية المتهمين فروا بجلدهم وتوزعوا بين الطائرات إلى حيث يظنون أنهم في مأمن من المساءلة والاعتقال. أما العتيبي فقد ظل تحت الضغط الإعلامي مستندا إلى حصانته الديبلوماسية قبل أن يقرر الفرار إلى حيث لا حصانة ولا قانون ولا حماية من غدر "المشغلين". لقد بات البحث عن أكباش الفداء أعز ما يبحث عنه القائمون على أمر المملكة إنقاذا لسمعة ملطخة وتنظيفا لأيادي مخضبة بالدماء على أعلى المستويات.
التجارب العالمية أثبتت أن فرق الموت تتكلف بتنفيذ المهام/الجرائم لكنها تبقى تحت رحمة فرق أخرى مهمتها "التنظيف" التي تشمل مهامها تصفية كل من يشكل وجوده خطرا على أسرار العمليات من المنفذين، وليس هناك من شخص يمثل الخطر الأعظم على عملية "اغتيال" خاشقجي أكثر من القنصل محمد العتيبي.
تصريحات محمد بن سلمان لوكالة بلومبرغ وبعده شقيقه، السفير بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم نفي العاهل السعودي، على لسان ترمب، لأي علم له ولولي عهده بالعملية، وما تلاها من حديث على "قتلة مارقين"، نسب إليهم ترمب، الذي تحول إلى مجرد موظف علاقات عامة لدى القصر الملكي السعودي، المسؤولية عن عملية القتل، تحمل من دلالات إمكانية التضحية بأكباش فداء، مقابل تسوية تبعد التهمة عن دوائر القرار السعودي الشيء الكثير. لكن الأكيد أيضا أن أي محاولات لإبعاد التهمة عن "القتلة" الحقيقيين أعقد مما كان يتصوره ولي العهد السعودي، وكفيله الأمريكي، طوال الأيام الأولى للجريمة الشنعاء.
جثة المهدي بنبركة لا تزال مفقودة حتى اليوم، لكن أربعين سنة من التطور التكنولوجي في التجسس واختراق الأنظمة الحمائية واعتراض المكالمات، ومن تحول مدن العالم إلى غابات من الكاميرات المثبتة في كل شارع وزقاق، تجعل الإفلات من العقاب في قضية جمال خاشقجي رهنا للتسويات السياسية وأجندات الحكومات. قضية اغتيال جمال خاشقجي، بما حملته من فظاعة حولتها لقضية
رأي عام دولية، اختبار جدي لسيادة القانون، ومهما تأخر ظهور الحقيقة فإنها ستنتهي يوما إلى ما يحاول كثيرون القفز عليه اليوم. وخز الضمير خاصية غربية، وتسرب الكثير من المعلومات خارج حدود الاستبداد العربي والإقليمي يجعلنا مطمئنين أن الحقيقة ستتجلى يوما أمام العالمين.