"يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق".. هكذا ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهكذا تنص الأديان السماوية وأي منطق إنساني سليم. يموت هذا المنطق ببطء إذا اختار هذا الإنسان أن يصير صحفيا في العالم العربي، عندئذ تتقلص مساحة الحرية لديه رويدا رويدا، حتى تكاد تتلاشى. فهو حينئذ بين
مطرقة سلطات قمعية لا تتسامح مع الرأي المخالف، وسندان مؤسسات رهينة لهذه السلطات أو لرأس المال، إلا من رحم ربي، وهم استثناء يثبت القاعدة.
في زمان آخر ومكان آخر، كان من المفترض أن يكون شخص مثل جمال خاشقجي على رأس مؤسسة إعلامية كبرى
يثري العمل الصحفي وينير وعي الأجيال الجديدة، لا أن يختفي في قنصلية بلاده وسط ظروف جريمة دولية. لقد أخذنا جلال الموت وفزعنا لبشاعة تنفيذ الجريمة، فاحتلت هذه التفاصيل حيزا كبيرا من اهتمامنا، ونحن ولا نزال نتابع فصول التحقيقات والأدلة، غير أن بيت القصيد ينبغي أن يسترعي اهتمامنا لبعض الوقت، وهو مسألة جمال خاشقجي الصحفي وتجربته في العمل والإدارة. وهي قضية بالطبع ليست منفصلة عن المصير المأساوي الذي لاقاه.
تقول
كارين عطية، محررة قسم الآراء الدولية في صحيفة الواشنطن بوست، إن جمال كان يأخذه الحنين وتلمع عيناه وهو يرى المحررين في صالة تحرير الجريدة؛ ويقول لها إنه يفتقد هذه الأماكن وتلك الأجواء. وهو انطباع لطالما كرره خاشقجي نفسه عدة مرات؛ بأنه صحفي وفقط وليس معارضا، حتى وإن كانت آراؤه تحمل نقدا تراه السلطة
السعودية الحالية شديدا عليها، ويتقاطع مع بعض مطالب المعارضين.
جمال الذي أراد
الصحافة مر بتجربة يمر بها كثير من الصحفيين العرب، وهي مسألة تأسيس كيان إعلامي وصناعة هوية، ثم يتبخر هذا الحلم بين عشية وضحاها، مثلما حدث معه في تأسيس قناة العرب الإخبارية التي أغلقت قبل أن تبدأ، بعد محاولات حثيثة للبث من قبرص ثم المنامة وإشاعات بث من الدوحة. وهناك مسألة فصله من رئاسة تحرير صحيفة الوطن السعودية بعد فترة قصيرة؛ بسبب بعض آرائه. وأخيرا وليس آخرا قتله على يد السلطة في إسطنبول؛ إن صحت كل هذه التسريبات والأدلة، فكلنا يتعلق بأمل ولو ضعيف جدا أن يكون حيا.
دورة الحياة والعمل تلك تتكرر مع كثير من المواهب الصحفية العربية: إغلاق مؤسسة وانكسار حلم ثم ملاحقات أمنية، فاغتيال مادي أو معنوي. الفرق الوحيد أن جمال الصحفي كان مقاتلا حتى اللحظات الأخيرة من حياته؛ التي ختمها كاتبا في صحيفة دولية مرموقة هي واشنطن بوست، والتي ربما لولاها هي، ودهاء السلطات التركية، لكان الستار قد أسدل على فصول هذه الجريمة لتقيّد ضد مجهول.
إن الذين شاهدوا فيلم "ذا بوست" في السينما في الأشهر الأخيرة؛ يدركون كيف يمكن أن تكون ملابسات وتفاصيل
اغتيال خاشقجي جزءا ثانيا أكثر درامية من الفيلم الذي دارت أحداثه في السبعينيات، وكان يتناول صراعا بين الجريدة كسلطة رابعة وبين السلطة التنفيذية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيسكون، بسبب نشر تسريب لوثائق سرية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية حول حرب فييتام. فالجريدة اليوم تسطر تاريخا جديدا بوقفتها مع أحد كتابها؛ في الوقت الذي يملكها مؤسس مجموعة "أمازون" "جيف بيزوس"، المقرب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لتضرب مثلا في الفصل بين الإدارة والتحرير في المؤسسات الإعلامية.
ربما ليست مصادفة أن تكون مأساة جمال خاشقجي جزءا من قصة واشنطن بوست، فهو زواج لم يكتمل بين الصحافة العربية الحرة والصحافة الغربية الحرة، كزواج جمال مع خديجة خطيبته التركية. ومأساة متكررة مع الحرية والاغتيال يتعرض لها صحفيو فلسطين كل يوم، ويعاني معها صحفيو سوريا، وبسببها فقد كثير منهم حريته وحياته أثناء مذبحة رابعة في مصر. إنها قصة مأساوية آن لها أن تنتهي، ونتمنى أن يسدل جمال الستار على مثل هذه الجرائم المادية والمعنية بحق الصحافة والصحفيين.