لم أصدق حتى الآن بأن الزميل جمال خاشقجي قد قتل، ولا أزال أنتظر الخبر اليقين الذي قد يؤكد أن الرجل لا يزال حيا يرزق. وما جعلني متعلقا بخيوط العنكبوت أمور عديدة، من بينها أن الرجل لا يمثل خطرا حقيقيا على النظام السعودي الذي كان جزءا منه، وتولى لفترة طويلة الدفاع عنه داخليا وخارجيا. قد تختلف طريقته في الدفاع عن عدد كبير من الصحفيين السعوديين وغيرهم، لكن هدفه النهائي هو محاولة جعل الحكم في المملكة مقبولا ومتطورا نسبيا. قد تكون
له ملاحظات نقدية، كما أن له وجهة نظر تشبه كثيرا ما يسعى إليه الإصلاحيون الوسطيون في كل بلد: قليل من الإصلاحات لا أكثر ولا أقل. ومن هذه الزاوية، لا يوجد مبرر كاف من شأنه أن يجعل السلطة تتخذ القرار بتصفيته، وأن تدفع بأجهزتها الأمنية والدبلوماسية إلى المغامرة مهما كان الثمن، ولو
على حساب سمعة النظام والبلد.
سبق أن تعرفت شخصيا على جمال عندما بلغه علم بأن مجموعة في تونس انشقت عن الحركة الإسلامية وأطلقت على نفسها "الإسلاميون التقدميون"، وسماها الكثيرون "اليسار الإسلامي". وكان يومها جمال أحد المشرفين على صحيفة "المسلمون"، وناقشني بالخصوص حول مبررات نقدي لحركة الإخوان المسلمين، ولسيد قطب تحديدا. وكانت له بالمناسبة نظرة نقدية لبعض الجوانب المتعلقة بهذه الشخوص، دون أن يبلغ في ذلك منحى جذريا. ثم تابعت بعد ذلك بعض مواقفه وكتاباته، فوجدته هادئا وحريصا على تجنب الصدام أو القطيعة مع ولاة الأمر في المملكة. ولهذا السبب بقيت أتساءل: ما الذي فعله الرجل الهادئ والوسيم حتى يقال عنه اليوم بأنه استدرج نحو القنصلية
السعودية في إسطنبول، وأن فريقا بخمسة عشر شخصا قدموا خصيصا لقتله وتقطيع جثته وإخفائها وتهريبها؟ إنه فيلم من أفلام الرعب التي لا يقوى على مشاهدتها إلا أصحاب القلوب القاسية.
إذ افترضنا أن ذلك قد وقع بالفعل، فإن الأمر يستوجب البحث عن العلة التي من شأنها أن تبرر
هذه الجريمة السياسية الوحشية وغير المقبولة في أي عرف من الأعراف، حتى لو كان الغرض منها تأديب الآخرين. هل يكون الرجل قد ارتكب جرما لا يغتفر أدى إلى القضاء عليه نهائيا، بما في ذلك تجفيف عروقه من الدم حتى يسهل تقطيع جثته إلى قطع صغيرة من اللحم، أو تذويب جثته في الحامض الفسفوري؟ هذا ما قيل والله أعلم. هل قتل جمال شخصا مهما في البلد؟ أو هل شرع في التآمر من أجل الإطاحة بنظام الحكم؟ حتى هذه
الجرائم لا يمكن أن تبرر تصفيته بهذه الطريقة.
مما يزيد من حجم الحيرة أن جمال خاشقجي جاء بنفسه إلى القنصلية، ودخلها بكامل الهدوء والثقة. لو فعل شيئا خطيرا لما فكر في الاقتراب من أي مبنى رسمي سعودي يوجد في تركيا أو في غيرها من الدول. لقد اتصل بنفسه بالقنصلية، وطلب موعدا للحصول على خدمة، وكان مصحوبا بخطيبته؛ اعتقادا منه بأن الأمر بسيط جدا. لا شيء مريب، ولا شيء يوحي بأن الرجل قد تحول إلى أخطر عدو على الماسكين بزمام الأمور في المملكة.
لنفترض أنه كان يخفي معلومات خطيرة، ألم يكن بالإمكان الضغط عليه من أجل الحصول عليها دون الإفراط في تعذيبه حتى الموت؟ هكذا يكون المنطق وهكذا تقتضي المصلحة العليا للدولة؛ لأن صورة الدولة في العالم مهمة جدا لدى صاحب السلطة، وبما أن هذا الصحفي المعارض يقيم خارج وطنه، وهو معلوم لدى وسائل الإعلام ويتمتع بحظوة واحترام بين زملائه، وهو ما يجعل مجرد التفكير في
اغتياله بهذه الطريقة يعتبر كارثة بكل ما تعنيه الكلمة، إضافة إلى كونه خطأ فادحا وغلطة استراتيجية مكلفة على جميع الأصعدة. لهذا السبب، لا نزال نستبعد حتى لحظة كتابة المقال تصديق الرواية المتداولة لدى مختلف وسائل الإعلام.
جمال لم يكن قاتلا أو مقاتلا، ولا مروج مخدرات، وإنما كان صحفيا. هذه مهنته، عاش بها وعرف من خلالها داخل المملكة وخارجها. فهل يمكن أن يتحول الصحفي إلى أخطر من تاجر سلاح؟ وهل يمكن أن تكون الكلمات التي يخطها أو الجمل التي يبثها عبر القنوات الإذاعية والتلفزيونية بمثابة الرصاص الذي يخيف ويثير قلق حراس المعبد؟
إنها فرضية لا تصدق، خاصة أن المملكة
تمر منذ فترة بهزات متتالية وتتعرض لهجوم إعلامي دولي، وهو تركيز يختلط فيه الإيجابي بالسيئ، وتبدو صورة المملكة حتى لدى حلفائها غير واضحة ومكسورة. وإذا ما تأكد أن جمال خاشقجي قد تمت تصفيته بهذه البرودة، فإن ذلك سيزيد من وضع نقاط استفهام غليظة حول مستقبل السعودية.