إنهم يسقطون السقف على رؤوسهم ويقهقهون انتصارا ولا يسألون على من انتصروا؟ ولديهم جُمَلٌ جاهزة لتبرير الخسران المبين.
تقول للموظف العمومي في أي قطاع شئت لماذا لا تعمل بنشاط وإخلاص فيرد بثقة (نخدم على قد فلوسهم)، أي بقدر ما يمنحون من أجر، ولكن أجرك أفضل من القطاع الخاص، فيقول القطاع الخاص فيه علاوات، إذن لماذا لا تلتحق به فيرد غاضبا هل جننت؟ هل يعقل أن أتخلى عن مسمار في جدار وأذهب للعمل عند شخص يطردني في لحظة غضب؟
تتضح الصورة: الوظيف العمومي راتب ثابت ومضمون وعمل بغير ضغط من الرؤساء المباشرين ثم بالتدريج وهذا ما يجري الآن بالتدقيق. المرؤوس يهدد رئيسه فينقلب اتجاه السلطة من الأسفل إلى الأعلى.
يعمل المسؤول على الحفاظ على صورة مؤسسة هادئة (حرصا على سمعته لا على العمل الذي تؤديه المؤسسة)، يعرف المرؤوس أن ذلك نقطة ضعفه فتنقلب الصورة. الدرجات المهنية الدنيا هي من يتحكم في سير العمل، ولأنها لا تريد أن تعمل فإن القطاع العمومي عامود الدولة ومصدر قوتها منذ تأسست يتعرض لعملية تفكيك من الداخل تؤذن بانهيار الدولة.
تسمع الآن حديثا يتأسف عن زمن بن علي الذي كان يظهر العين الحمراء للكسالى، ولكن هذه إحدى تعبيرات الخراب أن يتكاسل الموظف ثم يستدعي الدكتاتورية لتخزه من جنبه بعصاها ليقوم بعمله. حالة كافرة من غياب الوعي بالتاريخ. فابن علي أول من فتح بوابات تفكيك القطاع العام من الداخل، وسنأخذ قطاعا الصحة مثالا.
قطاع الصحة
بدأ ابن علي بتخريب قطاع الصحة بواسطة أساتذة الطب.
يتمتع التونسيون بنوع من المقارنة المنتصرة على الأشقاء في ليبيا الذين كانوا يحجون إلى تونس للعلاج. وكنا نقول إن تونس نجحت في تحقيق كفايتها من الأطباء وهذا صحيح بل إنها تصدر الأطباء وهناك الآن هجرة مكثفة من الأطباء إلى فرنسا خاصة. (بحكم التدريس باللغة الفرنسية نتيجة استعمال الفرنسية في التعليم).
يعود هذا النجاح في جزء كبير منه إلى مجموعة مقتدرة من أساتذة الطب لا ينكر فضلهم إلا جاحد، لكن هؤلاء الأساتذة أو جزء كبير منهم قايضوا الدولة في زمن ابن علي. إما ترفيع كبير في الأجور (خارج سلم التأجير في الوظيفة العمومية) أو الانقطاع عن تعليم طلبة الطب وتأطير أبحاثهم أي تخريب قطاع التعليم الطبي (عنصر الفخر التونسي). فابتدع ابن علي بدعة ستظل في قائمات سوءاته في تاريخ هذا البلد.
ولكي لا يرفع من أجور الأطباء الأساتذة منحهم بمقتضى قانون حق استعمال المستشفي العمومي لمدة يومين في الأسبوع لحسابهم الخاص. أي أن يأتي المريض إلى الطبيب الموظف العمومي ذي الراتب الثابت فيتلقى العلاج في المشفى العمومي ولكنه يدفع كلفة العلاج بسعر السوق للطبيب لا للمستشفى بالطريفة المخفضة (المدعومة).
مقابل هذه المكرمة بقي الأساتذة في المشافي الجامعية وفي الكليات يعلمون الطب ويشتغلون أيضا لحسابهم الخاص بأدوات المؤسسة العمومية، فنتج عن ذلك حالة مرضية عجيبة. تحول كل الطاقم الطبي من ممرضين وعملة ومساعدين طبيين إلى موظفين عند أستاذ الطب. وجرت المقارنة على لسان الناس بحكم التجربة، كما يفعل صيادو الخنازير البرية من جبال خمير (الشمال التونسي) الذين يستعملون أفرادا من قرى الشمال لإثارة الخنزير البري ليخرج من مكامنه فيطلقون عليه ويرقصون طربا عند إصابته .
صار الممرضون وحتى سواق سيارات الإسعاف إلى مثيري المرضى (الطرائد) يدفعونهم وفي الغالب دون علم منهم إلى أن يأتوا الفحص في يوم الأستاذ، فإذا تردد المريض أو كشف فقره يعطي موعدا للعلاج بعد سنة في أهون الحالات وكثير منهم يموت قبل حلول الموعد. أما إذا قبل فإن الموعد يصير بعد ساعات أو خلال الأسبوع نفسه. وكان الأساتذة يعرفون ولا يزالون يستمرئون ذلك وكانت هذه إحدى بدع ابن علي التي منها بدأ تخريب قطاع الصحة العام.
الثورة فشلت في إصلاح القطاع العام
كانت خريطة الطب في تونس قد بنيت بشكل غير عادل، إذ بقيت المناطق الداخلية فقيرة إلى المشافي وإلى الأطباء وكانت مبادئ الميز الايجابي التي أعلنت في الثورة توشك أن تتحقق، وكان للوزير النهضاوي زمن الترويكا سبق وضع خريطة جديدة بنشر تعليم الطب في مناطق الشمال الغربي والجنوب، وكان ينوي إجبار الأطباء على العمل لفترة من الزمن في هذه المناطق لتغطية النقص قبل أن يختاروا مكان عملهم الخاص. (وهو المشروع الاجتماعي الوحيد للثورة الذي أوشك أن ينجح) لكنه أسقط، وكانت النقابة هي الأداة .
جيشت النقابة بكل صلف موظفي القطاع الطبي من مختلف الدرجات ضد المشروع وحوصرت الوزارة، فتوقفت الخدمات الطبية حتى أسقط المشروع، وكانت من أغرب المظاهرات التي قامت ضد الثورة، فقد كان أساتذة الطب يسيرون صارخين ضد الوزير جنبا إلى جنب مع عملة الصحة وسواق سيارة الإسعاف. خرج الأساتذة التجار منتصرين وانكسرت المبادرة فلم يعد إليها من جاء بعد المكي.
قالت النقابة اليسارية: لقد كسرنا الوزير "الإخوانجي" لكنهم لم يعوا أنهم كسروا الخطوة الاجتماعية اليتيمة التي بدأت تتحقق. صار يقينا أن الأطباء قد تحولوا إلى مجموعة ضغط غير قابلة للكسر، وأن على الدولة وعلى المجتمع أن يتعامل معها على أنها إله صغير لا يغفر أن يشرك به.
وعلى غرار الأطباء يشتغل الآن بقية القطاع العام، فالتعليم في قبضة النقابة والبريد في قبضة النقابة وكذا الموانئ والمطارات (قطاع النقل العام) والشركات العمومية التي تعلن إفلاسها واحدة بعد أخرى. لا أحد يجرؤ على الاعتراض وإلا فالإضراب وإيقاف عمل المؤسسات هو الوسيلة لإجبار الحكومات على الركوع.
في الأثناء تبلور شعور الجرأة الوقحة على الوظيف العمومي فبإمكان أي ممرض أن يطرد مريضا وأهله قائلا خذوا كلابكم وانصرفوا إلى القطاع الخاص. فمن لم يقدر على القطاع الخاص مات مرضا وقهرا.
الموظف العمومي باع الطرح
هذه العبارة المستعارة من عالم الرياضة تعني الخيانة. لقد تهاون الموظف العمومي في حق عمله ومؤسسته ليقوم بتحصيل أقصى ما يمكن من الأجر بأقل المجهود الممكن. سيقول البعض هذا تعميم مغرض. نعم يوجد أعوان عموميون يغارون على القطاع العام لكنهم يصيرون أضعف من أن يواجهوا موجة التهاون و(الخيانة) فكثير منهم يتعرض للإذلال من قبل كسالى العمل لكي لا يحسب عليهم مزايدا. وينتهي الجديون غالبا بالاستسلام للموجة إيثارا للسلامة. لماذا؟
البعض يفسر الأمر بغياب الحزم، والحزم هو التسمية الملطفة للقهر الإداري. يقولون كان الموظف يخاف من رؤسائه والرؤساء يخافون من الوزراء الذين يخافون من الرئيس. وهذا صحيح نسبيا. الشعور بعدم التعرض للعقوبة الآن متفش بين موظفي القطاع ومسيّريه في درجات مختلفة والسبب في ذلك الحماية النقابية المفرطة التي فرضتها النقابة بقوة التعطيل لا بقوة المناظرة والإصلاح من الداخل كما تفعل نقابات تشاركية مشغولة بالمصلحة العامة.
القيادات النقابية تبتز الحكومات لغايات سياسية وتغتنم الحالة لتبتز بمطالب لا تخطر على البال. وقد عاش التونسيون وضعيات لا يمكن وصفها إلا بالإجرامية. إذ يوقف النقابيون وسائل النقل العام أو يغلقون الموانئ من أجل الحصول على خروف العيد مجانا. القيادات العليا تخاف أن تواجه النقابات الوسطى لحاجتها لها في الانتخابات الداخلية (توازنات المنظمة) فيتم إغلاق الدائرة والنتيجة انهيار القطاع العام في جميع القطاعات!
هل من مخرج لإنقاذ ما تبقى وترميم ما يمكن ترميمه؟ حالة الوعي بالمستقبل يبدو أنها ضعفت حتى لم تعد تقنع أحدا بالحفاظ علي الدولة. المعاينة أن الدولة اختفت من روح الموظف العمومي وبقي له أن يستعير كل التبريرات لكي لا يعمل لكنه لا يصل إلى شجاعة القرار بترك آلة الدولة تدور لغيره، فإذا لم يجن منها كل مكسب يعطلها والأدهى في الأمر أنه يفعل ذلك باسم الحرية.