لم تصبر وسائل الإعلام لكي تزف للناس أخبارا عن قرب
التهدئة مع الصهاينة ورفع الحصار عن قطاع غزة، ولم تتردد في نشر التفاؤل حول إتمام
المصالحة بين "فتح" و"حماس". ومرة أخرى وجدت نفسي وحيدا في التغريد خارج السرب، وقلت عبر وسائل إعلام عدة إنه لن تكون هدنة، ولن تكون هناك مصالحة. قال لي أحد المذيعين إنني متشائم فقلت له إنه ساذج.
تمنيات
الأخبار حول قرب التهدئة والمصالحة كانت تعبر عن تمنيات، ولم تكن تعبر عن معرفة بربط العلاقات الجدلية للخروج باستنتاجات صحيحة. ودائما يوصل تفكير التمني صاحبه إلى الفشل في الاستنتاج الصحيح، ومن ثم إلى تضليل الرأي العام. وقد عانت الساحة
الفلسطينية كثيرا من كتاب التمني بحيث ظن الجمهور أن الدولة على الأبواب، وأن سنغافورة فلسطين في طور التشكل. لم يحصل هذا أو ذاك واندحر الناس من جديد إلى زاوية من الإحباط الشديد واليأس من القيادات الفلسطينية.
كان رأيي منذ البدء أن الدول الاستعمارية ومن لف لفها من العرب والصهاينة معنية بتصفية المقاومة العربية لأنها باتت تشكل خطرا على الصهاينة. ولهذا لا يمكن التوصل إلى تهدئة أو هدنة مع الصهاينة بدون وجود آلية يتم التفاهم عليها للتخلص التدريجي من السلاح الموجود في قطاع غزة، والذي أصبح قادرا على التحدي. ولا يمكن التوصل إلى مصالحة لذات السبب. وقد كان هذا واضحا في طرح السلطة الفلسطينية لمبدأ سلاح واحد، والذي تعني فيه بقاء سلاح السلطة المرخص صهيونيا وزوال سلاح المقاومة. فما دامت المقاومة موجودة وسلاحها يتصدى فإن التفاهم بينها وبين خصومها غير وارد.
سلاح المقاومة
حدثني أحد القيادات حول الفوائد التي ستجنيها غزة من التهدئة. لقد ذكر لي فوائد كثيرة وعلى رأسها فك الحصار عن القطاع. سألته عما يطلبه الصهاينة في المقابل فقال إنهم يطلبون وقف الطائرات النارية الورقية فقط. طبعا لم أوافقه على ذلك، وطلبت منه أن يعيد حساباته ويفكر بالمزيد. ربما كان ذلك مطلب الصهاينة في حينه، لكنهم لن يوقعوا اتفاقا أو يتوصلوا إلى تفاهمات مع بقاء سلاح المقاومة. قلت له إن الصهاينة سيطلبون على الأقل تجميد الوضع العسكري في غزة، وتشكيل لجنة تراقب هذا التجميد. وتشكيل مثل هذه اللجنة سيعني انكشاف المقاومة أمنيا، وسهولة القضاء عليها بعد ذلك. ولهذا يجب أن يبقى الحذر على رأس أولويات المفاوضين مع المصريين.
لا يريد المصالحة
ولا يختلف الحال بالنسبة للمصالحة من حيث أن عباس لا يريد مصالحة، وقد أكد على ذلك من خلال قرارات متفردة ضاربا بعرض الحائط كل مستلزمات المصالحة والوحدة الوطنية. قرر اتخاذ إجراءات ضد قطاع غزة بدون أي رادع وطني، وقرر عقد مجلس وطني فلسطيني بدون توافق وطني. وبقي مجلسه فتحاويا بامتياز. رجل الدولة الحريص على التماسك والوحدة لا يتصرف هكذا، ومن يريد مصالحة يحاول أن يخطب ود الآخرين المختلفين معه. هو يلعب لعبة خطيرة ومستمرة في إذكاء نيران الخلافات، وتعميق الخصومات الداخلية الفلسطينية. ومن العبث البحث بمصالحة مع شخص يتصرف بطريقة ترفع منسوب العداوات.
وواضح أيضا أن الوسيط يشترك مع قطبي التهدئة والمصالحة الصهاينة والسلطة الفلسطينية في موقفهما من المقاومة. مصر وهي الوسيط مشاركة في الحصار المضروب على غزة، وقد قامت بتدمير الأنفاق وإغراقها بالماء. والحكومة المصرية القائمة الآن أشد عداء للمقاومة من حكومات مصر أيام حسني مبارك. فكيف نتوقع مصالحة وتهدئة تحافظ على المقاومة المرفوضة صهيونيا ومصريا وفلسطينيا؟ فهل كنت مخطئا عندما قلت للمذيع بأنه ساذج؟ هذه السذاجة نجدها لدى العديد من الإعلاميين والسياسيين. إنهم يتبعون الخبر ليجدوا أنفسهم غارقين في الإحباط. والنصيحة أن يتريث المرء ليربط العلاقات الجدلية بعضها ببعض حتى لا يطغى على عقله ما يرغب هو في رؤيته منبثقا على أرض الواقع. ومن لا يستطيع ربط العلاقات الجدلية بعضها ببعض عليه أن يتوقف عن الحفر في المستقبل. والأفضل له أن يثقف نفسه في المنطق الجدلي.
مصالح فصائلية
أين انتهينا؟ انتهينا إلى نفقات سفريات وإقامات في فنادق على حساب الشعب الفلسطيني ولم نجن له فوائد تخلصه مما هو فيه من كرب داخلي. التهدئة لم تحصل، والمصالحة ما زالت بعيدة المنال. ويجب ألا يصاب أحد بتصريحات قيادات فصائلية فلسطينية حول الأخوة وحسنات الوحدة الوطنية. الحوارات الداخلية الفلسطينية محكومة بالمصالح الفصائلية وليس بالمصالح الفلسطينية. ومن الأجدى أن نفهم حقيقة تلك المصالح قبل أن نتكهن بالنتائج.
إزاء المآزق التي تعاني منها أحاديث التهدئة جرى طرح فكرة العودة إلى تفاهم عام 2014 حول وقف إطلاق النار والذي رعته مصر. تفاءل الناس كثيرا بذلك الاتفاق وظنوا أن مطارا سيقام في غزة، وأن مساحة الصيد البحري ستتوسع كثيرا، وأن ميناء بحريا سيبنى. ببساطة، الصهاينة لم ينفذوا الاتفاق، والوسيط المصري لم يفعل شيئا ليجبر الأطراف على التنفيذ. الصهاينة لن ينفذوا تفاهم وقف إطلاق النار، والمصريون سيبقون مع المتفرجين.