تحتل
غزة موقعاً مهماً ومركزياً في"صفقة القرن" التي تعمل عليها الادارة الامريكية، حيث يمثل نزع فتيل قنبلتها ومنعها من الانفجار هدفا أساسيا للفريق الأمريكي المعني بالملف الذي وضع خطتين (أ) و(ب).. الأولى تلحظ عودة السلطة إلى غزة وسيطرتها على مقاليد الأمور، وتحملها كامل المسؤولية هناك بمساعدة ومواكبة مصرية، والثانية تتجاوز السلطة وتعمل مباشرة مع القاهرة، وغير مباشرة مع
حماس لتحسين الأوضاع في غزة من أجل إلهائها بنفسها ومنعها من الانفجار، أو التحول إلى حجر عثرة في طريق تمرير الصفقة ونجاحها.
الخطة (أ) لحظت دورا مركزيا للرئيس
محمود عباس بغزة والصفقة بشكل عام، وهي توقعت أو ظنت أن بالمكان إغراء السلطة، أو حتى ابتزازها ودفعها للتعاطي إيجاباً مع الخطة، أو على الأقل عدم مقاطعة الجهود والمساعي الأمريكية والانفتاح على الجهود المصرية كي تتحقق المصالحة، وتخفيف الشروط التي يطرحها الرئيس عباس على حماس، والتي تبدو أقرب إلى الاستسلام، ومن ثم قيادته (أي أبو مازن) مع الأمم المتحدة وقوى إقليمية ودولية أخرى، لخطط ومشاريع تحسين الأوضاع في غزة وحلّ أزماتها المستعصية (المياه، الكهرباء، وإصلاح البنى التحتية المنهارة فيها)، وبالتالي خلق بيئة مناسبة وهادئة أمام طرح الصفقة على أمل تمريرها، أو على الأقل جعل احتمال نجاحها أعلى وأكبر من احتمال الفشل.
غير أن عباس بدا طوال الوقت متوجساً من الجهود المصرية وعودة القاهرة للوساطة في ملف المصالحة، واعتقد دائماً أنها تهدف إلى تقوية خصومه، أو على الأقل خلق شراكة ما مع حماس، ولو في مرحلة أولى - وفق النموذج اللبناني - مع تمهيد الأرضية السياسية والشعبية أمام عودة محتملة لخصمه محمد دحلان، وتحويل نظام السيسي إلى اللاعب الرئيس المركزي غزاوياً وفلسطينياً بشكل عام. وكما قال القيادي في حركة حماس صلاح البردويل لوكالة سبوتنيك (24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017)، فقد طلب عباس صراحة من الحركة التخلي عن الوساطة المصرية مع وعد بحل كل الخلافات العالقة بشكل ثنائي.
إلى ذلك، بدا عباس متوجساً ومتشددا جداً تجاه الصفقة القرن والجهود الأمريكية بشكل عام، ونظر إلى الصفقة بصفتها خطة لتصفية القضية
الفلسطينية، معتبراً أن الإدارة الأمريكية فقدت مكانتها كوسيط (الحدّ الأدنى) بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، خاصة مع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس. ويبدو مع الوقت أكثر عناداً وإصراراً على إفشال مساعي تمرير الصفقة، بل ومواجهتها حتى الموت كما يقول في مجالسه الخاصة.
يبدو (عباس) مع الوقت أكثر عناداً وإصراراً على إفشال مساعي تمرير الصفقة، بل ومواجهتها حتى الموت كما يقول في مجالسه الخاصة
من جهتها أرسلت الإدارة الأمريكية أوائل تموز/ يوليو الماضي ما يشبه الإنذار الأخير لعباس، ورسالة تهديد عبر المبعوث الأمني ميلادينوف؛ مفادها: إما أن يتم حل مشاكل غزة من خلاله ما يعني انفتاح ما على السياسة الأمريكية ووقف مقاطعتها، أو سيتم العمل بمعزل عنه مباشرة مع السلطات المصرية وعبرها بشكل غير مباشر مع حماس لإنجاز ذلك. وهذا يمثل في الحقيقة الخطة (ب) للفريق الأمريكي الصهيوني الثلاثي (كوشنير غرينيلات وفريدمان) المعني بصياغة الخطة، ومن ثم السهر على تنفيذها.
رسالة تهديد عبر المبعوث الأمني ميلادينوف؛ مفادها: إما أن يتم حل مشاكل غزة من خلاله ما يعني انفتاح ما على السياسة الأمريكية ووقف مقاطعتها، أو سيتم العمل بمعزل عنه(عباس)
الخطة (ب) تتضمن تقريباً نفس مشاريع وتفاصيل الخطة (أ)، ولكن بمعزل عن السلطة ورام الله. ورغم أنها تتم بأياد مصرية وأممية، إلا أنها تتمتع بتأييد كبير واضح وعلني من الإدارة الأمريكية وتلحظ إعادة الهدوء للشريط الحدودي ومنع أي تصعيد ميداني كبير، وتحسين فوري للواقع الغزي عبر
فتح المعابر (رفح وكرم أبو سالم) وإدخال مزيد من المواد البضائع والمستلزمات الإنسانية، وتوسيع مساحة الصيد للصيادين، ومن ثم التفكير فى مرحلة لاحقة بإقامة مشاريع عملاقة في شبه جزيرة سيناء لحل مشاكل غزة بشكل جذري، بما في ذلك محطات لتوليد الكهرباء وتحلية المياه مع منطقة صناعية وميناء لخدمة غزة، ووضع مطار العريش بخدمة أهلها بعد توسيعه وتطويره طبعاً. والخطة تتحدث أولاً عن رصيف أو ميناء بحري في قبرص برقابة أمنية إسرائيلية لنقل البضائع بشكل عاجل وسريع، على أن يتم العمل بموازاة ذلك على المشاريع العملاقة في سيناء، والتي ستسغرق شهوار وربما سنوات مع مئات ملايين الدولارات يتم الحديث عن نصف مليار أو للدقة، 600 مليون دولار استعدت دول عربية لتوفيرها ضمن تأييدها أو دعمها لصفقة القرن، أو التوجهات السياسات الأمريكية بشكل عام.
في كل الأحوال، سواء تم تنفيذ الخطة (أ) أو الخطة (ب)، فإن لغزة مكانا مركزيا في صفقة القرن بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي ستكون محور الدولة أو الدويلة الفلسطينية التي ستستند أساساً إليها، إضافة إلى بقع متناثرة المعزولة في الضفة الغربية مع عاصمة ما مصطنعة في أبو ديس.. ببساطة ستكون غزة المستنزفة المشغولة بنفسها مركز الثقل السياسي الاقتصادي الاجتماعي للدولة الدويلة في حال تمرير صفقة القرن بنجاح.
سواء تم تنفيذ الخطة (أ) أو الخطة (ب)، فإن لغزة مكانا مركزيا في صفقة القرن بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي ستكون محور الدولة أو الدويلة الفلسطينية التي ستستند أساساً إليها
أما في حالة إصرار أبو مازن ومن موقعه القيادي الرسمي على مواجهة الصفقة وإفشالها، كما على العقوبات وشروطه المعلنة المجحفة والتعجيزية والمنفصلة عن الواقع للمصالحة مع حماس، مع رفض هذه الأخيرة تقديم تنازلات جوهرية وكبيرة لإغرائه، بما في ذلك تفضيل العلاقة مع رام الله على العلاقة مع القاهرة، فسيبقى الانقسام الفلسطيني على حاله، وغزة ستبتعد، تنفصل تدريجياً عن الضفة وفلسطين التاريخية، وتتجه أكثر وأكثر نحو سيناء ومصر بشكل عام، مع أو حتى بدون مشاريع عملاقة، بوصاية ملموسة وجدية لنظام عباس كامل السيسى عليها، ولن تكون فى وضع يسمح لها بالتصدي الجدي لصفقة القرن؛ الممكن فقط بأساليب سياسية ودبلوماسية خاصة، مع نزع فتيل انفجارها بتحسين جدي للأوضاع فيها وتخفيف ملحوظ لأزماتها الخانقة الثلاث الكهرباء المياه والصرف الصحي، كما ستكون ولو بدون إرادتها أسيرة سيرورة تسمح بتصفية، ولو تدريجية وبطيئة للقضية الفلسطينية مع إقصائها عن الضفة، واستمرار وتيرة التهويد والاستيطان المتسارعة في هذه الأخيرة.
يتمثل الخيار الأفضل والأنسب والأكثر نجاعة، وحتى واقعية، في إنهاء الانقسام وتطبيق تفاهمات المصالحة نصاً وروحاً، والإقلاع عن ذهنية الاستبداد والفساد
عموماً، يبدو المشهد الفلسطيني في أسوأ حالاته، والخيارات باتت سيئة جداً، وربما حتى تتراوح بين السيئ والأسوأ. وكما دائماً، يتمثل الخيار الأفضل والأنسب والأكثر نجاعة، وحتى واقعية، في إنهاء الانقسام وتطبيق تفاهمات المصالحة نصاً وروحاً، والإقلاع عن ذهنية الاستبداد والفساد العالم الثالثية في رام الله، وطلب الاصطفاف خلف القائد في معركة مواجهة صفقة القرن على أحقية وصوابية المواجهة، إلا أن الاصطفاف يكون جنباً إلى جنب عبر إعادة ترتيب البيت الوطني الذهاب إلى المصالحة، وإعادة الإعمار توحيد المؤسسات، ثم انتخابات ديمقراطية شفافة نزيهة والقبول التام بنتائجها، وخوض المعركة/ الصراع بذهنية منهجية موحدة ذكية مصممة عنيدة على أساس المقاومة الشعبية السلمية، بكافة أشكالها وأساليبها الميدانية الدبلوماسية الاقتصادية القانونية، بالتأكيد بعيداً عن نهجي أوسلو والعسكرة اللذين أنتجا الواقع الكارثي الذي نعيشه حالياً في الضفة غزة على حد سواء.