هناك ثلاثة مسارات أو مشاريع رئيسية تتصارع وتتدافع في ما بينها داخل المشهد الليبي في
ليبيا اليوم، ويمكن حصرها في مسارات عسكرية وسياسية ودستورية لكل منها مؤيدوها محليا وإقليميا ودوليا.
المسار العسكري يتمثل في محاولات خليفة
حفتر تحقيق طموحه في بسط سيطرته العسكرية على كل ليبيا، وخاصة غرب ليبيا، حيث العاصمة طرابلس التي لا يستطيع أي طرف حكم ليبيا بدون السيطرة عليها. غير أن فرص حفتر في تحقيق مشروعه العسكري أصبحت ضئيلة جدا، رغم فرض سيطرته العسكرية بالكامل على الشرق الليبي، وتمركز بعض المجموعات العسكرية الموالية له في الجنوب والوسط. فتستحيل اليوم سيطرة حفتر عسكريا على الغرب الليبي، حيث توجد أكبر كثافة سكانية تمثل 75 في المئة من سكان ليبيا، وتتواجد قوى عسكرية كبيرة حاضنة وداعمة لثورة فبراير ورافضة لمشروع حفتر، وحيث تتواجد في العاصمة طرابلس حكومة الوفاق الوطني الشرعية المعترف بها دوليا. وأصبح كل ما يملكه حفتر والقوى الخارجية الداعمة له الآن هو استخدام السيطرة العسكرية على شرق ليبيا كورقة ضاغطة لتحقيق مكاسب سياسية.
المسار السياسي، خاصة بعد فشل تعديل الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات في كانون الأول/ ديسمبر 2015، أصبح يتمثل في ضرورة الإسراع نحو إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية هذا العام، وهو المشروع الذي تتبناه فرنسا ومن ورائها مصر والإمارات، ويستند على بيان اجتماع باريس حول ليبيا في 29 أيار/ مايو الماضي، والذي دعا إلى انتخابات رئاسية في ليبيا في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2018.
غير أن المشروع الفرنسي للذهاب الى انتخابات رئاسية سريعة يواجه رفضا دوليا من إيطاليا، ومن ورائها أمريكا وبريطانيا. وترى إيطاليا أن إجراء أي انتخابات قادمة في ليبيا يجب أن يسبقه اتمام مصالحة وطنية شاملة، خاصة وأن الليبيين خاضوا تجربة الانتخابات من قبل في عامي 2012 و2014، دون أن يخرج ذلك ليبيا من حالة الانقسام والصراع.
وتواجه خطة فرنسا رفضا واسعا محليا كذلك، خاصة من قبل التيارات السياسية المناهضة لحفتر، فتبدي هذه التيارات تخوفا من أن أية انتخابات رئاسية قبل الوصول إلى دستور دائم للبلاد قد تأتي برئيس يقوم بالاستحواذ على كل السلطات، والانقلاب على المسار الديمقراطي، فيعود بليبيا الى الدكتاتورية والحكم الفردي الشمولي من جديد. وهناك شكوك كذلك في أن الهدف الحقيقي من وراء إصرار فرنسا وحلفائها على فرض انتخابات رئاسية سريعة هو المراهنة على إيصال حليف رئيسي لهم في ليبيا (سواء كان حفتر أو شخصية أخرى مدنية) إلى سدة الحكم، لكي يخدم بالأساس مصالح هذه الدول في ليبيا.
المسار
الدستوري المتمثل في مطلب الدستور أولا يعتبر هو الأقوى، حيث تدعمه وتطالب به الغالبية من أبناء الشعب الليبي، خاصة أن ليبيا لم تعرف وجود شرعية دستورية ودستورا حاكما لها منذ عام 1969، عندما ألغى القذافي، بعد استيلائه على السلطة في انقلاب عسكري، دستور الاستقلال الذي وُضع عام 1951. كما ينطلق داعمو المسار الدستوري من أن أهم أهداف ثورة فبراير 2011 هو بناء دولة دستورية من جديد.
ويرى الداعمون للمسار الدستوري أن خروج ليبيا من أزمة صراع الشرعيات المختلفة، ومنها شرعيات سياسية وجهوية وعرقية وأيديولوجية؛ لا يكون الا بالتوافق على عقد اجتماعي في شكل دستور دائم جديد يؤسس لشرعية واحدة قوية منبثقة من الشعب وتضمن وحدة البلاد. وسيحدد هذا الدستور إطار ومعالم النظام السياسي الجديد لليبيا، كما يحدد كذلك سلطات وصلاحيات المؤسسات السياسية المختلفة، وصلاحيات رئيس الدولة الذي لا يجب أن يتولى الرئاسة لأكثر من فترتين متتاليتين.
ويطالب تيار الدستور أولا؛ مجلس النواب في طبرق بضرورة الوفاء بواجبه في إصدار قانون الاستفتاء على مشروع الدستور الذي أنجزته هيئة صياغة مشروع الدستور، أو "لجنة الستين" المنتخبة مباشرة من الشعب الليبي عام 2014، وهو المشروع الذي تم التصويت عليه من قبل هذه الهيئة بالنصاب القانوني المطلوب في صيف 2017 ويتطلب موافقة ثلثي المشاركين في استفتاء عام مباشر عليه من قبل الشعب.
غير أن الانقسامات السياسية وبعض التدخلات الخارجية، وخاصة العربية منها، أصبحت تعمل لعرقلة إصدار هذا القانون. ولجأت قلة من أعضاء البرلمان الرافضين لمسودة الدستور أصلا؛ مؤخرا الى عرقلة قانون الاستفتاء، من خلال إقحام البرلمان في جدل دستوري، ومحاولة تفخيخ مسودة قانون الاستفتاء بمواد قد تقود إلى وأد مشروع الدستور المنجز برمته.
ووصلت محاولات عرقلة إصدار قانون الاستفتاء إلى تهديد أعضاء البرلمان الداعمين للمسار الدستوري بمنعهم من دخول قبة البرلمان في طبرق. وهدد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح كذلك، في جلسة الاثنين 27 آب/ أغسطس، بأنه ما لم يلتئم النصاب القانوني للبرلمان في جلسة الأسبوع القادم، فإنه سيدفع باتجاه تجاهل خيار الدستور أولا والذهاب مباشرة إلى انتخابات رئاسية في ليبيا. ويعتبر تصريح عقيلة هذا تجاوزا خطيرا لدور هيئة صياغة الدستور المنتخبة مباشرة من الشعب ومصادرة لإرادة الشعب الليبي.
فرص نجاح المسار الدستوري في أن يذهب الليبيون إلى استفتاء على مشروع الدستور وإقراره أولا؛ ستعتمد بالأساس على قدرة الداعمين لهذا المسار محليا ودوليا على إفشال مناورات المعرقلين، وتعتمد كذلك على قوة الإرادة الدولية في فرض ترتيب منطقي للخطوات القادمة المطلوبة لإنهاء الصراع واستقرار الأوضاع في ليبيا.
هذه الخطوات يفترض أن تبدأ بإقرار الدستور الدائم أولا، مرفودا بتحقيق مصالحة وطنية شاملة، على أن يتزامن ذلك مع
المصالحة الوطنية وتوحيد المؤسسات السيادية، وخاصة العسكرية والاقتصادية. ومن الخطوات الهامة أيضا، العمل على تحسين الأوضاع المعيشية والأمنية للمواطن، خاصة في ظل شح السيولة النقدية وارتفاع الأسعار والاندلاع المتكرر للعنف، كما شهدت العاصمة طرابلس في الأيام الماضية. ويمكن أن تأتي بعدها الانتخابات كاستحقاق نهائي وتتويج لتوافق الليبيين على عقدهم الاجتماعي الجامع والدستور الجديد، وانتهاء للمرحلة الانتقالية بولوج مرحلة دائمة واعدة من الأمن والاستقرار والتنمية والتقدم.