تكاد تكون الوسطية منعدمة في عالمنا العربي، إن أحببنا نحب بتطرف وتمجيد خارج عن السيطرة فنكون ضحايا المبالغة. وإن كرهنا نكره بحقد أعمى يحجب عن أعيننا أي شعاع ونفقد معه أخلاقنا. وبين الحب المتطرف والكره المتطرف نخرج نحن بأبشع صورنا. التطرف هو ممارسات نقوم بها يوميا بحق بعضنا البعض دون أن نعي أننا ننجرف إلى مستنقعه.
التطرف في مفهومي لصيق العبودية.. هل العبودية انقرضت فعلا؟ تكاد تنقرض بمفهومها التقليدي لكننا عبيد من نوع آخر. نقدس أشخاص فنراهم على هيئة بشرية كاملة يستحيل أن تقع في الخطأ ونكرهه لدرجة أن نتمنى إحراق الأخضر واليابس في سبيل إنهاء هذا الشخص.
نقدس حزبا فنسوق المبررات له إن اتخذ قرارا جانبه الصواب. ونكره حزبا آخر. ونشكك في كل ما يقدم حتى وإن كنا على قناعة داخلية بأن موقفنا ليس صحيحا. الانتقاد يا سادة ليس خيانة. توجيه الملاحظات لشخص تحبه ليس كفرا.. لماذا كل هذا القبح في الحب والكره؟!!!
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو طريقة التعاطي العربي مع أزمة انخفاض الليرة، وكيف فجر جدالا متطرفا على وسائل التواصل الاجتماعي.. سواء على صعيد من يقف مع تركيا أو ضدها. الخلاصة أن كلا القطبين بتنافرهما الحاد اجتمعا في مستنقع التطرف والتشدد.
أتفهم كثيرا تعطش الناس لشخصية قيادية تشعرنا بالقوة.. شخصية تقارع واقعنا المنهزم سرا وعلانية.. شعورنا بالضعف والهوان يجعلنا كمن يتسول الأمل.. وتسول الأمل مثل الرسم على الماء، والماء لا يحفظ الأشكال. وهذا يدفعنا للتطرف.. محاولات رسمنا المتكررة لما نريده ونتمناه فنبتعد عن الواقعية. أردوغان إنسان يخطئ ويصيب.. وتوجيه ملاحظة بأن إفراطه في استخدام (الخط الأحمر) جعل مواقفه متذبذبة بالنسبة لي (حلب خطر أحمر) ثم ماذا حلب اليوم؟ بيد النظام. (القدس خط أحمر) ثم ماذا؟ لا شيء تغير بالقدس. وأنا لا أطلب منه معجزة، لكن أنتقد استخدامه المفرط للكلمة وهو يعلم أنه غير قادر على فعل شيء. فلماذا هذا الخطاب الذي يشعل الأفئدة المتعطشة طالما أن النتيجة هي مكانك راوح.
هذه الفكرة أو الانتقاد ستدفع محبيه لدفاع عنه بجنون وهذا هو التطرف. انتقادي لأردوغان لا يعني أنني أنكر إنجازاته الداخلية ومواقفه الإنسانية وقوته السياسية، لكن لا أتفق معه في بعض القضايا وهذا حقي.
من الأمور المثيرة للاشمئزاز فيديو تم تداوله لشخص يزعم أنه إعلامي عنوانه (إن لم تدعم الليرة ستغتصب زوجتك). هل ظن هذا الشخص مثلا أن هذا العنوان سيجعلنا ننتفض على كل ما هو أمريكي؟ في الفيديو يطلب الوقوف إلى جانب تركيا.. بأن نشتري ملابس تركية وأن نقاطع المنتجات الأمريكية.
كان يمكنه أن يقول ذلك ببساطة، لكن فكرة زج الاغتصاب والظهور بشكل خطابي مقيت وكأننا على شفا حفرة من الانزلاق. كنت أود أن أقول له: نحن في القاع وانزلقنا منذ زمن بعيد.. وتركيا تمثل لنا حلما نود أن نعيشه في بلداننا.
في المقابل من يكرهون أردوغان تمنوا أن تنهار بلد بأكملها باقتصادها، وأن يعاني ويتأثر 80 مليون إنسان، فقط لأنه لا يحب أردوغان. المثير للغثيان أن بعض الأصوات المحسوبة على دول حصار قطر قالت مثلا إن المشكلة في تركيا تكمن بشخص أردوغان. كم الحماقة في هذا الكره لا يوصف. اختلف مع أردوغان وسياساته، لكن لا تنكر إنجازاته وبأنه أتى بصناديق الاقتراع.
ستقولون بأنني لخصت التطرف في قضية واحدة، لكني سأضرب لكم مثالا آخر مخزيا عن تطرفنا بالحب والكره. نحن حتى متطرفون في تشجيع منتخبات كرة القدم وفقط تأملوا حال مشجعي ريال مدريد وبرشلونة.. إنه أمر مثير للسخرية فعلا.
شكل آخر من أشكال التطرف هو المزايدة. وبين تطرف الـ (مع) والـ (ضد) يغيب الصوت الهادئ في ضجة النقاش الحاد.. كم مرة جلسنا عُربا على طاولة نحتسي القهوة وانتهى المطاف لمبارزة فيما بيننا عن من يعاني أكثر في بلده!! من مقموع أكثر!! ثم نستعرض صنوف التعذيب المتبعة من قبل حكومات دولنا.. نستعرض قمعنا وكأنه فخرنا ونتبارز في من لديه في بلده صنوف تعذيب أقسى. كم مرة خضنا نقاشا مع شخص يختلف عنك وقادك ذلك النقاش إلى برود في العلاقة وربما إلى قطيعة شخصية. إذا كنت تنكره، فأنا اعترف به ولا بد لي ولك أن نعترف لنتجاوز هذه الآفة المجتمعية البغيضة.
كل يوم أدرك أكثر أن هناك خوفا دائما من الاعتدال لأن البعض يراه ميوعة في الرأي، لذلك نُدفع دفعا للسكوت لأننا في حلبة المزايدات. نحن متهمون في اعتدالنا تجاه قضايا يعتقد أن الرأي المعتدل فيها خيانة. وأنا هنا لا أدعو أن يكون في قلوبنا فسحة لنصافح الأسد أو نقبل بالانقلاب أو نتجاوز عن مجرم انتهك حقوقنا كبشر. لكن أدعو لأن نكون معتدلين.. أقلها فيما بيننا نحن الذين نبكي حالنا وواقعنا وليس لنا حيلة إلا أن نتجادل وهذا أضعف الإيمان .