أثارت حادثة
مقتل الأنبا ابيفانيوس، أسقف ورئيس دير أبومقار، الانتباه إلى انزواء الشأن المسيحي في
مصر عن النقاش العام، في حالة أشبه للتنظيمات السريّة، رغم التمازج الجغرافي والاجتماعي بين عموم المصريين بشكل عام. ويبدو أن التوترات الدينية الحاصلة في مصر سمحت بالتنافر الذي حطّم كل الروابط الثقافية والاجتماعية الممتدة لما يجاوز أربعة عشر قرنا.
طبيعة أي مشكلة أن أطرافها متعددون، ولكن بنِسَب متفاوتة بين من يحمل على كاهله العبء الأكبر من أسباب أي أزمة. والأطراف المعنية هنا: الدولة، والكنيسة، والتيار الإسلامي.
كانت العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في مصر تجري بصورة لا تتسع للخلاف العميق الذي يجري الآن، فكانت تحدث توترات يتم احتواؤها سريعا، وهي توترات طبيعية بين أي أطراف لديها تباين في الدين أو الثقافة أو العرق، وهي صورة متكررة في دول العالم مهما بلغت درجة تسامحها مع الغير وديمقراطيتها الداخلية، كخلافات السود في أوروبا وأمريكا والمسلمين كذلك عند استهدافهم قانونيا، وغير ذلك من صور الخلافات التي يمكن وصفها بالطبيعية بالقياس لمحدوديتها.
كانت تحدث توترات يتم احتواؤها سريعا، وهي توترات طبيعية بين أي أطراف لديها تباين في الدين أو الثقافة أو العرق، وهي صورة متكررة في دول العالم
بلغت مساحة الوئام المجتمعي مداها عام 1855، عند السماح للمسيحيين بدخول الجيش، وإلغاء الجزية كذلك. وعام 1866 تم السماح للمسيحيين بدخول مجلس النواب، وتم الإنعام برتبة "الباشوية" على أول مسيحي، وجرى كل ذلك في القرن التاسع عشر.
بدأت التوترات عند قدوم الضباط لسدة الحكم في انقلاب 1952، ونبع ذلك - في تقديري - من حس تنظيمي لا من حس ديني، إذ كان البكباشي - حينها - جمال عبد الناصر حريصا على وأد الحياة المدنية لأي تجمّع حتى لو كان غير سياسي، طالما أنه ليس تحت قبضته، لكن هذا التوتر كان سياسيا، وابتعد عن مجال الجماعة المصرية الواحدة، ثم بلغ التوتر السياسي مداه عندما سحبت الدولة عام 1981 اعترافها بانتخاب الأنبا شنودة الثالث بطريركا للأقباط، لتعود بعد ذلك وتقبل به كرئيس روحي للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، لكن الدولة كانت دخلت في صدام أعنف وأخطر على مستوى القاعدة المجتمعية، فلماذا أقدمت على الصدام؟ مع الأخذ في الاعتبار أن الدولة غير بريئة النوايا في اصطدامها.
بدأت التوترات عند قدوم الضباط لسدة الحكم في انقلاب 1952، ونبع ذلك - في تقديري - من حس تنظيمي لا من حس ديني
كانت الكنيسة المصرية تقوم بدورها الروحي، لكنها احتاجت لعملية إصلاح وتجديد تواكب التحديث الذي تقوم به الدولة المصرية، فقام البابا كيرلس الرابع (1854 - 1861) عقب رسامته بعمل مدرسة ليتخرج منها القساوسة والرهبان، بدلا من نظام التعليم الذي كان يشبه الكتاتيب. وفي عام 1874، تزعّم بطرس باشا غالي فكرة إنشاء المجلس الملّي ليقوم على النواحي الإدارية والمالية، وصدر قرار بإنشائه من الخديوي إسماعيل، وبقيت العلاقة بين
المسلمين والمسيحيين في الإطار الطبيعي إلى أن دخل عامل جديد بنشأة جماعة الإخوان المسلمين.
كانت جماعة الإخوان المسلمين في بواكيرها ذات خطاب متوازن مع طبيعة المجتمع، ربما يجري خلاف مع بعض الأفكار التي طرحها الشيخ حسن البنا، لكنها في مجملها كانت أفكارا متزنة وتجافي الغلو الديني. وفي عام 1952 نشأت جماعة "الأمة القبطية"، كجماعة مسيحية مقابلة للإخوان المسلمين، ورفعت شعارا يشبه شعار الإخوان: "الله ربنا، ومصر وطننا، والإنجيل شريعتنا، والصليب علامتنا، والقبطية لغتنا، والشهادة في سبيل المسيح غايتنا"، وقامت هذه الجماعة باختطاف بابا
الأقباط الأنبا يوساب الثاني عام 1954، ليتم اعتقال قيادتها وحل الجماعة فيما بعد.
تنبهت الدولة لذلك، لكنها لم تقم بدورها في احتواء الحالة الجديدة، بل أذكتها وتركت التفاعلات الخشنة لتزيد من الشق الاجتماعي بين أبناء الدولة الواحدة
هذه المنافسة التنظيمية اشتعلت مرة أخرى عقب خروج الإخوان من السجن، وجلوس البابا شنودة الثالث على كرسي مرقس الرسول في السبعينيات. وعمل البابا الراحل على احتواء "شعب الكنيسة" تحت رعايته، وتنبهت الدولة لذلك، لكنها لم تقم بدورها في احتواء الحالة الجديدة، بل أذكتها وتركت التفاعلات الخشنة لتزيد من الشق الاجتماعي بين أبناء الدولة الواحدة، في واحدة من أبرز جرائم النظم الحاكمة، إذ لا يُتصوّر أن يقوم "حاكم" بضرب الشقاق بين أبناء المجتمع، فيُفسد لُحمته بغرض البقاء على كرسيه، إذ تعمد الشقاق الاجتماعي لا يأتي إلا من الأعداء.
المنافسة التنظيمية اشتعلت مرة أخرى عقب خروج الإخوان من السجن، وجلوس البابا شنودة الثالث على كرسي مرقس الرسول في السبعينيات. وعمل البابا الراحل على احتواء "شعب الكنيسة" تحت رعايته
وقد سمعت من الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أن بعض حوادث العنف التي كانت توجّه ضد المسيحيين؛ لم يكن يتم عمل محاضر بها، وإن كُتب محضر فإنه لا يتحرك في النيابة، في عملية بَذْر فتنة واضحة من الدولة، ربما بقصد التأديب للبابا المتمرد، دون اعتبار لأثر ذلك على النسيج المجتمعي.
إذا كنا نتحدث عن ثالوث تسبب في تغييب الهم القبطي عن الشأن العام، فإن العبء الأكبر يأتي على الدولة لأنها صاحبة القرار والأمر والنهي في وعائها الحدودي، وهي التي تملك أدوات فرض النظام والقانون، وهي التي تملك المَنْحَ والمَنْع لموازنة سلوكها، ولاحتواء التجمعات الدينية والسياسية بداخلها، ثم تأتي الكنيسة في المستوى التالي باعتبارها المتضررة من سوء العلاقة، وهذا الترتيب ليس لأجل تحميلها ما لا تطيق، لكن الأولى بالمتضرر أن يسعى لإزالة الضرر الواقع عليه إن لم تنصفه الدولة أو التكوينات الأهلية الأخرى، ثم تأتي ممارسات الإسلاميين كأحد العوامل الأساسية في مثلث تغييب المسألة القبطية عن الشأن العام. وقد تصاعدت تلك الممارسات الممزِّقة للمجتمع عقب ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، ليأتي رد الكنيسة القبطية بالاصطفاف في الاستحقاقات الانتخابية ضد توجهات تلك التيارات، ثم انزلق البابا تواضروس في المسألة السياسية بمشاركته في بيان الانقلاب العسكري منتصف 2013، مع شيخ الأزهر وقيادات الجيش وبعض الأحزاب السياسية.
غابت الحكمة عن الكتل الكبيرة والفاعلة في الدولة، على الجانب الرسمي والأهلي، فبلغت الحدة مداها وبلغ الاستقطاب مداه، وأصبح ترميم العلاقة شديد الصعوبة، وإن كان ممكنا، وهو يحتاج لاتزان في توجه قيادات ذلك الثالوث، أو قيام أحد أطرافه بكسر الحلقة واختراق خطاب التمايز والاختلاف بخطاب يؤكد على المشترك ويجذب المختلف إليه. وفي هذا الإطار يقول المستشار طارق البشري في تقديمه لكتاب "الأقباط في السياسة المصرية" للدكتور مصطفى الفقي ما نَصُّه:
غابت الحكمة عن الكتل الكبيرة والفاعلة في الدولة، على الجانب الرسمي والأهلي، فبلغت الحدة مداها وبلغ الاستقطاب مداه، وأصبح ترميم العلاقة شديد الصعوبة
"منذ عدة سنوات، كنت أتحدث إلى سياسي بارز من ساسة ما قبل 23 يوليو 1952 (وهو قبطي كان من كبار الوفديين مع مصطفى النحاس)، كنت أستوضحه بعض الوقائع التي عايشها وشارك فيها، ومنها مدى المساواة بين المسلمين والأقباط في تولي بعض الوظائف الخاصة، وكنت في حديثي أقتبس المواقف بمعيار مطلق للمساواة، فكان الرجل يهدئ من حماسي عن وجوب الالتزام العملي الصارم بالمبادئ المطلقة، ويتكلم عن الأوضاع التاريخية والصياغات الفكرية والنفسية للجماعات، ووجوب الرعاية والتفهم (الودود) لكل هذه المكونات والملاءمة بينها، وكان يلفت نظري إلى أنه إن كان ثَمة نقص في مساواة القبط في بعض الوظائف، فثمة زيادة لحسابهم في وظائف أخرى لا تقل أهمية، وثمة أسباب يتعين فحصها ومراعاتها.
وضرب لي مثلا بالشافعية وهم أصحاب المذهب الغالب بين المسلمين في مصر، وقد اختُصّ الحنفية بوظائف القضاء الشرعي كلها دونهم، ومع ذلك لم نسمع شَكاة من الشافعية، ولا وصفوا أنفسهم أنهم يعانون اضطهادا وتفرقة، ولا يكون من الإنصاف وصف مصر بأنها تضطهد الشافعية، لو أن الحنفيين يمتازون عليهم، وحسب الشافعية وغيرهم الكثير من وظائف الوعظ والإرشاد والتعليم.
وأدركت من حديث الرجل الكريم كيف يكون الموقف الفكري والإنساني، لمن أسهم في قيادة شعب كامل بجموعه كلها، على كثرة التصنيفات الاجتماعية والفكرية لهذه الجموع، وكيف تكون النظرة الشاملة والمعالَجة الودودة البنّاءة لمشاكل أمة بأسرها، وكيف تُمْكن المُداواة دون استئصال، ويمكن العلاج دون البتر حفاظا على الجسم كله، كاملا وحيا ومعافى".
انتهى كلام الحكيم البشري ولا تعليق، وخالص العزاء لأسرة ومحبي الأنبا المغدور.