يعتبر البعض أن قانون تحصين كبار القادة العسكريين في مصر قد حدث فجأة ودون مقدمات. والحقيقة أن كاتب هذه السطور قد أشار في مقال سابق بعنوان "الإدارة بالبيادة" نشر في موقع "عربي21" (24 حزيران/ يونيو 2018)، إلى أن هناك أزمة داخل القوات المسلحة المصرية بسبب إقالة وزير الدفاع (المحصّن دستوريا) الفريق صدقي صبحي. وقد جاء في المقالة: "سؤال ثالث: هل تسبب هذا التصرف من السيد "سيسي" في أزمة داخل الجيش؟
الإجابة: نعم... هناك أزمة!
إذا كانت هناك أزمة، فذلك يستتبع سؤالا آخر... ما حجم وأبعاد هذه الأزمة؟
الإجابة: لن يحدث شيء جلل، فأمثال هؤلاء الجنرالات لن يفعلوا شيئا لكبيرهم مندوب إسرائيل، غاية ما في الأمر مجموعة من الترضيات، والمواءمات... لا أكثر!".
هذا القانون هو محاولة أو إجراء لحل الأزمة داخل القوات المسلحة في إطار الترضيات والمواءمات التي ذكرتها في مقالي السابق، وهي أزمة - كما قلت سابقا - ستمرّ، كما مرّت الأزمات التي قبلها.
هذا القانون هو محاولة أو إجراء لحل الأزمة داخل القوات المسلحة في إطار الترضيات والمواءمات التي ذكرتها في مقالي السابق
القانون فكرته الأساسية أن يحصن هؤلاء القادة في الداخل، فهم وزراء ولا يجوز مجرد التحقيق معهم، وفي الخارج كدبلوماسيين
سيتمتع هؤلاء القادة بجميع المزايا والحقوق المقررة للوزراء في الحكومة، بالإضافة إلى تمتعهم بالحصانة الدبلوماسية طوال مدة خدمتهم واستدعائهم، في أثناء سفرهم خارج البلاد، بالإضافة إلى مميزات أخرى يحددها رئيس الجمهورية.
أي أن القانون فكرته الأساسية أن يحصن هؤلاء القادة في الداخل، فهم وزراء ولا يجوز مجرد التحقيق معهم، وفي الخارج كدبلوماسيين، بحيث يصعب استدعاؤهم للمحاكمة في الداخل، ويصعب مطاردتهم في قضايا دولية في الخارج.
* * *
كل من شمله هذا التحصين متهم، ولو لم يكن متهما لما حصّنه أحد.. قائمة واضحة، لا لبس فيها
حين نتحدث عن برنامج للعدالة الانتقالية بعد انتهاء هذه الحقبة السوداء قريبا، سنجد أن السيد "سيسي" قد منحنا ببساطة القائمة الأولى للمتهمين...! كل من شمله هذا التحصين متهم، ولو لم يكن متهما لما حصّنه أحد.. قائمة واضحة، لا لبس فيها.
صحيح أن القائمة الحقيقية قد تطول وتشمل كثيرا من المجرمين، ولكن الاستقرار على أول أو أهم قائمة سوداء من مجرمي الحرب الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في حق شعبهم؛ أمر مهم، والشكر كل الشكر للسيد "سيسي" الذي أراد أن يحصن نفسه وعصابته، فوضع الكلابشات في يديه وأياديهم!
* * *
هل حصنت القوانين أحدا قبل ذلك؟
كان بإمكاني أن أستعرض تاريخ كثير من الطغاة في هذا المحور من الحديث.. بإمكاني أن أتحدث عن السيد "خورخي فيديلا"... "سيسي" الأرجنتين، وقد كان واثقا من نفسه لدرجة أنه لم يُصدر أي قوانين لتحصين نفسه، ولكن حين جاء موعد العدالة الحساب، قام صغار الضباط بإثارة الفوضى في البلاد ليحصنوا أنفسهم، فصدرت قوانين حصنتهم واستفاد "فيديلا" من تلك القوانين... ولكنه في النهاية حوكم، ومات ذليلا.
كان بإمكاني أن أتحدث عن "كنعان إيفيرين"... "سيسي" تركيا، وقد عرفت تركيا أكثر من "سيسي، وهو أيضا حصّن نفسه بكل القوانين الممكنة، ولكن في النهاية حوكم، ومات ذليلا، بعد أن صوّت الشعب على تعديلات دستورية عام 2010م؛ ألغت المواد الدستورية التي حصن بها نفسه وعصابته.
كان بإمكاني كذلك أن أذكر "بينوشيه"... "سيسي" تشيلي، وقد حصّن نفسه بعضوية مجلس الشيوخ إلى الأبد، وفي النهاية حوكم، ومات بعد أن جلبته يد العدالة من لندن، ليقضي آخر سنوات عمره في أروقة المحاكم، ثم أنقذه الموت قبل أن يسجن.
لو كان ينفع التحصين لما خلع السيد الفريق "صدقي صبحي" من موقعه كما يخلع الحذاء القديم
ستظل الرتب الصغيرة والمتوسطة خارج إطار التحصين، كما أن جميع أجهزة الأمن التي ساهمت في القتل أكثر من الجيش؛ ستظل عرضة لأي انتقام أو قصاص
النظام المصري قد يبدو قويا، ولكن الحقيقة أنه هش إلى درجة يصعب على الكثيرين تصورها، وهو يعاني من معضلات سياسية واقتصادية، ستظهر إن عاجلا أو آجلا
إن هذا القانون كان مخططا له أن يصدر في اليوم نفسه، ولم يصدر لأسباب إجرائية تتعلق بالعدد اللازم من نواب البرلمان، ذلك أن نواب ما يسمى بالبرلمان المصري لا يحضرون الجلسات، فعضويتهم لهذا الشيء ليست أكثر من حصانة، وباب ارتزاق، ولولا ذلك لصدر القانون في الثالث أو الرابع من تموز/ يوليو، أي أن مناقشة القانون لم تستغرق سوى يوم واحد فقط.
إن هذا النظام يعلم جيدا أنه سيسقط، وأنه سيحاسب، وللأسف الشديد نرى من يقاوم هذا النظام يظنه غير قابل للإسقاط، وغير قابل للهزيمة.
شكرا للسيد "سيسي" على القائمة الأولى للمتهمين، وليتأكد الجميع أن بقية القوائم موجودة، وسوف يأتي يوم الحساب، وسيكون ذلك بالعدل لا بالانتقام، وبالقانون لا بالثأر.
موقع الكتروني: www.arahman.net
بريد الكتروني: arahman@arahman.net