لم يكن انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 نتاج سهرة 30 حزيران/ يونيو المخابراتية، بل كان معدا له سلفاً منذ سقوط حسني مبارك في 11 شباط/ فبراير 2011، بإجباره على التنحي وتكليف المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد..
هكذا كانت صيغة البيان التي أرادها المشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع في ذات الوقت، لكي لا تخرج الثورة عن سيطرة العسكر وينسحب البساط من تحت أرجلهم، وبالتالي يفقدون السلطة وتخرج من بين أيديهم! وبينما كان الثوار يرفعون علامة النصر ويشربون نخب انتصارهم، وجموع الشعب ترقص وتهلل في شوارع مصر كلها، وليس في ميدان التحرير فحسب، كان المجلس العسكري يخطط للانقلاب على الثورة التي ستفقده عرشه السياسي والاقتصادي، والتي عبّر عنها أحد أعضائه فيما بعد (أثناء الحكم العسكري) قائلاً: "ده عرق الجيش ندافع عنه بالدم"، وهو ما حدث بالفعل في المجازر التي حدثت فيما بعد، من رابعة والنهضة وأخواتهما!
نعم، بدأ المجلس العسكري يخطط للانقلاب منذ تلك الليلة بينما الثوار سكارى في نشوة الانتصار! فأصدر الإعلان الدستوري الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر الثورة، وفرّقت الثوار إلى شيع وأحزاب تتنازع وتتناحر فيما بينها، واستغلها لتقسيم وتفتيت القوى الثورية التي انطوت تحت مسمى "ائتلاف شباب الثورة"، فأنشأ عشرات الائتلافات المماثلة، والكل يدّعي أنه كان في قلب ثورة 25 يناير، وأنه كان مشاركاً في شرارتها الأولى.
ونجح المجلس العسكري في إثارة الفرقة بين رفاق الأمس القريب، والذي لم يكونوا يميزون فيه بين ما هو علماني وما هو إسلامي.. كانوا جميعهم يضعون أيديهم في أيدي بعضهم البعض، فإذا بهذه الأيادي تضرب بعضها البعض بفضل الدسائس والمخاوف التي بثها المجلس العسكري فيما بينهم! لقد انزعج المجلس العسكري من مشهد المواطن المسيحي الذي يصب الماء لشريكه (المسلم) في الوطن ليتوضأ ويصلي، ومشهد الترانيم المسيحية وهي تُقرأ وصمت المسلمين أثناء تأدية صلاة المسيحيين؛ احتراماً لشعائرهم.. هذه المشاهد غير مسموح بتكرارها مرة أخرى، فكانت مذبحة ماسبيرو أمام مبنى التلفزيون، والتي قتل فيها حوالي 25 مواطناً مسيحياً بدبابات الجيش، وأشعلت الفتنة مذيعة تلفزيونية ادعت أن المسيحيين يهاجمون الجيش، ونادت أهالي المنطقة أن ينزلوا دفاعاً عن جيشهم الوطني، وعزز ذلك نداء مماثلا من الجماعة الإسلامية.. واعتصم المسيحيون أمام مبنى التلفزيون ومعهم بعض القساوسة مرددين هتافات طائفية! ومن هنا بدأت الفرقة، ولم تكن جمعة قندهار (كما أطلقوا عليها) ببعيدة عن تعميق هذه الفرقة وإثارة الخوف والرعب في نفوس المسيحيين من الإسلاميين، أضف إلى ذلك بعض الحوادث الفردية المفتعلة هنا وهناك، مثل قطع أذن رجل على يد سلفي، أو خطف فتاة مسيحية وإجبارها على اعتناق الإسلام.. الخ، مع تسليط الإعلام عليها بشكل مكثف والنفخ في نار الفتنة، ما زاد في تعميق الانقسام المجتمعي..
أدار المجلس العسكري الفترة الانتقالية بخبث شديد، فتعمد إثارة الفوضى في البلاد وإشعال الحرائق في بعض المباني المهمة، كالمجمع العلمي الذي أذاع المذيع بالتلفزيون خبر حرقه قبل حدوثه بالفعل!! وفتحت القنوات الفضائية بثا مباشرا على مدار 24 ساعة لتلك الأحداث، وامتلأت الشاشات بمشاهد النيران المشتعلة هنا وهناك، ما أثار الخوف والفزع في قلوب الشعب.
وهكذا، فقد تحقق الهدف الذي كان يسعى إليه المجلس العسكري، وهو كراهية الشعب للثورة التي تسببت في كل هذه الفوضى والخراب. ولا ننسى أيضا دور المواطنين الشرفاء الذين استعان بهم المجلس، وهم جيش البلطجية الذي قال عنهم رئيس حزب الوسط أبو العلا ماضي؛ إن عددهم يبلغ 450 ألف مواطن يتبعون المخابرات، وهم الذين كانوا يثيرون الفوضى والذعر في البلاد..
نجح المجلس العسكري في أن يطفئ جذوة الثورة في نفوس الجماهير، وخاصة بعد أحداث مجلس الوزراء ومحمد محمود والعباسية ومجزرة ستاد بورسعيد المدبرة؛ التي راح ضحيتها العشرات من الشباب الأبرياء!
بعد نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية والرئاسية، وضع المجلس العسكري كل العراقيل والعقبات لإفشالهم، فحل مجلس الشعب بحكم من المحكمة الدستورية العليا، التي كانت إحدى أدواته في مناهضة الثورة وإجهاضها، قبل إجراء جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية؛ حينما تأكد المجلس من فوز مرشح الإخوان الدكتور محمد مرسي، وأصدر إعلاناً دستورياً مكملاً ليلة الانتخابات يشل حركة الرئيس القادم ويجعله مكتوف الأيدي، لا يستطيع اتخاذ أى قرار دون الرجوع للمجلس العسكري الذي وضع لنفسه سلطة خاصة، وهو ما كان قد رفض من قبل من قِبل جميع القوى الثورية في بدايات الثورة وفي أوج قوتها، في ما عرفت بـ"وثيقة السلمي"، فلم يتمكن المجلس آنذاك من تمريرها، كما أنه ألغى فيه اللجنة التأسيسية لوضع الدستور.
بعد فوز الدكتور محمد مرسي في 24 حزيران/ يونيو 2012 في أول انتخابات حرة ونزيهة تجرى في المحروسة، ليصبح أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر منذ سبعة آلاف عام، أُغلقت أمامه أبواب مجلس الشعب لإلقاء القسم الرئاسي أمام نواب الشعب كما هو متبع، فذهب لإلقائه أمام الشعب كله (وليس نوابه فقط) في ميدان التحرير، ميدان الثورة، فاتحاً ذراعيه للجماهير التي خرجت عن بكرة أبيها لتملأ الميدان بأكمله، غير مرتد قميصا واقيا للرصاص، كما قال في كلمته.. ما أعطى زخماً جديداً للثورة.
بدأ بعدها صراع خفي (وإن كان ظاهراً لمن لديه بصيرة سياسية يقرأ بها الأحداث)، بينه (مرسي) وبين المجلس العسكري الذي يصر على أن يظل الحاكم الفعلي للبلاد حتى ولو من وراء ستار أو من خلف حاكم مدني يكون واجهة صورية فقط لاغير، لتبقى كل السلطات في حوزة المجلس؛ ممسكاً بزمام الأمور، لذلك عندما أصدر الرئيس محمد مرسى بعد توليه الحكم مباشرة، في 8/7/2012، قراراً جمهورياً بإلغاء قرار حل مجلس الشعب ودعوته للانعقاد مجدداً، استعمل المجلس العسكري إحدى أسلحته، وهي المحكمة الدستورية العليا لرفض القرار، رغم أنه قرار سيادي لا يحق للمحكمة الدستورية النظر فيه من الأساس. ولكن المجلس العسكري يريد أن يقوض الرئيس كي لا يستطيع أن يحكم؛ مستخدماً أيضا سلاح الإعلام، أخطر سلاح في عصرنا الحديث وأقواها على الإطلاق، فهو أقوى من القنبلة الذرية. فكل وسائل الإعلام، سواء المرئي منها أو المسموع أو المطبوع، تحت سيطرته، واستطاع المجلس من خلالها أن يشوه صورة الرئيس ويحط من قدره ويقلل من شأنه كرئيس حاكم لأكبر دولة عربية، ويهاجم كل قراراته ويسخر من كل أفعاله..
بعد مرور مئة يوم على تولي الرئيس مرسي الحكم، بدأت بعض القوى التي تدعي الثورية، والتي ولدت وتربت وترعرت في أحضان المخابرات، الدعوة لمظاهرات يوم 14 آب/ أغسطس لإسقاطه، ولكن قبلها بأسبوع (في 6 آب/ أغسطس) حدث حادث مريب ومأساوي في مدينة رفح بسيناء؛ لم يُكشف عن تفاصيله ولا ملابساته حتى الآن، وهو مقتل 16 جنديا أثناء تناول الإفطار في رمضان، ما أثار غضب الشعب. وأثناء تشييع جنازة الشهداء الستة عشر، تم الاعتداء على رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل وإعادة الرئيس مرسي للقصر الجمهوري ومنعه من حضور الجنازة؛ بحجة الحفاظ على حياته من غضبة الجماهير! وسقطت أو أحبطت محاولة الانقلاب الأولى..
وازدادت حدة الصراع بين الرئيس المدني المنتخب والمجلس العسكري، فبعد أقل من أسبوع من حادث رفح، وبالتحديد يوم 12 آب/ أغسطس، ألغى الرئيس مرسي الإعلان الدستوري المكمل، وأحال كلا من المشير محمد حسين طنطاوى والفريق سامي عنان إلى التقاعد، في سابقة خطيرة لم يتوقعها أحد.. فرح بها الشعب كثيراً، لكن المفارقة هنا أنها لم تلق ترحاباً لدى القوى المدنية التي كانت تضع دمى لهما في ميدان التحرير أثناء الحكم العسكري؛ معلقين في المشانق للمطالبة بإعدامهما. بالضبط كما حدث عندما أصدر قراراً بإقالة النائب العام من منصبه وتعيين نائب عام جديد، وهو مطلب جماهيرى طالب به الثوار في ثورة يناير، وكانت تعلق صورته في ميدان التحرير للمطالبة بإقالته، بل ومحاكمته أيضا. ولكن حينما تحقق هذا المطلب على يد الرئيس مرسي، كان لهم رأي آخر، إذ رفضت تلك القوى المدنية، وعلى رأسها المرشح الخاسر في الانتخابات حمدين صباحي، إقالته، وذهبوا لمكتب النائب العام يساندونه ويعضدونه!
اجتمعت كل القوى المدنية في جبهة واحدة أطلق عليها جبهة الإنقاذ ضد حكم مرسي والإخوان بصفة عامة؛ عقب إصداره الإعلان الدستوري في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، فكانت محاولة الانقلاب الثانية في أحداث الاتحادية وإخلاء قوات الأمن لمواقعها وعدم حماية القصر الجمهوري، لدرجة أن المتظاهرين أحضروا رافعة لخلع أحد أبوابه، ولكن فشل هذا الانقلاب الثاني، فكانت حركة تمرد المخابراتية التي موّلتها دولة الإمارات العربي، وباركها كل من السعودية والكيان الصهيوني؛ لأنهم شعروا بخطر وجودي على عروشهم وكيانهم من استمرار حكم الإخوان المسلمين ونجاحه. فليس غريباً أن تتوحد مخاوف هؤلاء وأهدافهم، كما لم يكن غريباً أن تتوحد أهداف القوى المدنية التي كانت تنادي بالأمس القريب بسقوط حكم العسكر مع أهداف العسكر نفسه في الخلاص من حكم الإخوان والقضاء عليهم، فتم التحالف لهذا الهدف، واستغل العسكر هذه القوى كغطاء مدني لانقلابه العسكري ليظهر به أمام العالم وكأنها ثورة شعبية في 30 حزيران/ يونيو 2013، فكانت هذه القوى المطية التي عبرت دبابات العسكر من فوقها لسدة الحكم، وهي التي كانت تحسب أن العسكر سيسلمون الحكم على طبق من ذهب! ولا عزاء للانتهازيين الحاقدين.
ليس بالشماتة تعود مصر للمسار الثوري!
هالله هالله.. يا حرامي الفانيلة