خرج محمد صلاح من كأس
العالم ومعه الفريق المصري مكدورا محسورا، وولّت الفرق العربية الثلاث الأخرى إدبارها
تجر أذيال الخيبة، وأصيب الجمهور العربي بالإحباط، بعد تبدد الآمال العراض التي
علقها عليها.
الشارع العربي، مشرقا
ومغربا، كانت أعينه معلقة على شاشات التلفاز تتابع أداء الفرق العربية، وهذا إن دل
على شيء فعلى الروابط العاطفية المشتركة التي لا تزال قوية وجياشةً بين العرب. ما
فرقه الساسة وألاعيبهم وحدته كرة القدم، هذا اذا استثنينا الفريق السعودي الذي
قوبل بنوع من التشفي وسيل من التعليقات الساخرة على أدائه في مباراته الافتتاحية أمام
روسيا.
المفارقة الغريبة هي أن
الردود الساخرة هذه من السعودية، وحتى الشماتة فيها، تعكس بدورها وجود شعور عربي
عميق بالانتماء المشترك. فالسعودية ما قوبلت بذاك الكم الهائل من التعليقات
المتهكمة إلا لأن الشارع العربي يرى أنها قد وضعت نفسها في الموقع الخطأ من ساحة
فلسطين والقدس، وهو يريدها أن تكون حيث يليق بها أن تكون، في انسجام مع رمزيتها
الدينية ومكانتها السياسية، تتصدر خط الدفاع عن القضايا العربية الكبرى، بدل
الانجرار وراء نتنياهو وحليفه ترامب.
وأتوقف مجددا عند محمد
صلاح الذي خلب ألباب الملايين في إنجلترا وحول العالم، وفاجأ عشاقه بأداء هزيل بين
صفوف منتخب بلاده، فتساءلوا مدهوشين ما الذي دهى الهداف اللامع، ليبدو أمام
أنظارهم مهزوزا شاحب المحيا تائها في الميدان؟
ونحن نسأل هل المشكلة
في صلاح، أم في منظومة الفريق المصري التي الفى نفسه جزءا منها؟
الحقيقة هي أن الوضع
الرياضي عامة، والكروي منه على وجه الخصوص، ليس إلا انعكاسا لأحوال البلدان
العربية وواقعها، وهو يحيلنا لمحاولة التفكير العميق والثاقب في أوضاع التخلف
و"التقدم" في العالم العربي.
واستخدم كلمة
"تقدم" هنا بين معقفين لأن المصطلح بات ممجوجا في الأوساط الفكرية
والسياسية الغربية، منطبعا بالايديلوجيات الوضعية للقرن التاسع عشر، لكني لا اجد
بديلا هنا عنها يوفي بالغرض للأسف.
حالة محمد صلاح تمدنا بأدوات
تحليلية لتفسير ظاهرة التخلف وحالة التعثر في العالم العربي، فانتقال اللاعب من
اللعب في ليفربول الإنجليزي إلى الفريق الوطني المصري يفضح الهوة السحيقة التي
عبرها صلاح من "التقدم" إلى التخلف.
في المونديال، خبر
الشاب الموهوب الفرق بين التطور والتخلف، بين الحركة بانتظام وعقلانية نحو الهدف
والوجهة المحددة بعناية ورشاقة وانسياب، وبين من يمضي بعشوائية يتخبط ذات اليمين
وذات الشمال، يبحث عن منفذ في خضم الرداءة، منهكا مرتبكا.
طبعا لا يجب أن يؤخذ
هذا الأمر بعقد أو بمركبات نقص إزاء الأمم "المتقدمة"، فليس في تفوق الأمم
أسرار عجائبية، ولا ما يدعو للانبهار أو الشعور بالنقص.
لا علاقة للتقدم
والتخلف بالقيم والأخلاق، بل قد تكون أبعاد من حياتنا نحن العرب ارقى أخلاقيا
ووجوديا، ولكنها على المستوى المادي والعمراني، بتعبير ابن خلدون، ابعد ما يكون عن
ذلك.
فأخلاق الرحمة
والتكافل الأسري والكرم وغيرها قيم جميلة ونبيلة، وهي اكثر شيوعا وتجذرا في
مجتمعاتنا من المجتمعات الغربية، التي طغت فيه النزعة الفردية، وضعفت فيها الروابط
الجماعية وقيم التضامن.
تخلف الأمم وتقدمها لا
يعني أفضلية إحداها معياريا على الأخرى ، فهي نتاج لأسباب تاريخية مفهومة ومعلومة.
وهنا، يجب أن نتوقف
عند مسألة النظام أو الانتظام العام الذي يحوّل الفردي إلى جماعي. فتقدم الأمم
(وأوضاع الفرق الرياضية نموذج مصغر لها) لا يقوم على العبقرية الفردية، بل على
القدرة على ضم هذه الطاقات والكفاءات إلى بعضها، بحيث تُستثمر طاقات الفرد في
المجموعة فتفرز عبقرية الجماعة، تماما كما يفعل الفريق الرياضي إذ يتحرك بانتظام وأحكام
على الميدان فيبدو الأداء العام منتظما متماسكا.
الأمر إذن لا يتعلق
بمهارة أو رشاقة لاعب أو بعض اللاعبين..
إذا أخذت العرب كأفراد
فستجد بينهم حتما الكثير من الطاقات الفذة التي تفوق أقرانها من الغربيين مواهب،
لكنها تهدر وتُهمَش، وأحيانا تدمر في خضم الفشل والفوضى والتدهور العام.
لكن بعضها حين ينتقل إلى
الدول المتقدمة ويهتدي للحاضنة المناسبة، تتفتق مواهبه ويبرز تميزه المبهر.
لذا، لم يكن غريبا أن
يسمي الجيل الأول من الإصلاحيين العثمانيين من العرب والأتراك مشروع تطوير الدولة
العثمانية بالتنظيمات، تدليلا على الحاجة للنظام المحكم الذي أرادوه أن ينتشل
الدولة العثمانية من تخبطها.
محمد زويل كان مجرد
أستاذ في جامعات مصر المترهلة، ولكنه حين تحول إلى الولايات المتحدة تفوق على أقرانه
من الأمريكيين ودخل وكالة النازا ونال جائزة نوبل للسلام.
ومحمد صلاح كان مجرد
لاعب رياضي مغمور نشأ في احدى قرى مصر الفقيرة وكان أقصى أحلامه أن يلعب في صفوف الزمالك،
لكنه حين انتقل إلى إنجلترا، التي تحسن التقاط الكفاءات، تفتقت ملكاته وصقلت
مهاراته، فخطف الأنظار وهتفت باسمه الجماهير وأمسى كل ما يقترن بنجاحاته من
تعبيرات، من السجود والدعاء إلى تسريحة الشعر المتموجة، ممجدا مبجلا.
الذكاء كما يقول
ديكارت أكثر الأشياء قسمة عادلة بين البشر. قابلية التفكير والإبداع متساوية بين الأفراد،
ولكن الظروف الموضوعية، أي أحوال المجتمعات، هي التي تتيح الاستثمار في الذكاء أو
إفراز الغباء وإشاعته.. فإما أن تنتج التفوق والتميز أو الفشل والإحباط.
الأمر يتعلق بدور
المؤسسة في صقل الطاقات والارتقاء بها، فالأمم تتمايز عن بعضها قوة ووهنا، تناسبا
مع أوضاع مؤسساتها العامة.
الأمم القوية المتمكنة
تحظى بمؤسسات متينة صلبة ضاربة جذورها في أرضها، أما الضعيفة المتردية فمؤسساتها
هشة متقلبة تسودها الفوضى والعشوائية والمحسوبية، لا تجيد استثمار الطاقات وصقل
المهارات.
ما يكسب الفرد الكفاءة
الخاصة ويرتقي به على سلم التخصص والتفوق والتميز، هي المؤسسة، ذاك الإطار الذي
يضمن انتقال الخبرة من فرد إلى آخر، من السابق للاحق.
كما أن ما يضمن التغلب
على فكرة الموت ونهائية الكائن البشري هي المؤسسات. فالأفراد يهرمون ويفنون ولكنهم
ينقلون خبرتهم ومعارفهم عبر الأطر التي تعمر من بعدهم وتتعاقب عليها الأجيال.
قد يفوق الطالب
والباحث والطبيب والمهندس والعالم العربي أقرانه من الأمريكان والأوروبيين
واليابانيين وغيرهم ملكاتٍ ومواهبَ، لكنه لا ينتج ولا يبدع في غياب المؤسسة التي
تحسن توظيف طاقاته والاستفادة من تميزه، بدون الجامعات والمخابر والمعامل والمصانع.
هكذا يتردى الفرد
الموهوب في متاهات الإحباط والضياع والعدمية المعششة في أرجاء وطننا العربي.
ابن خلدون كان أول من
انتبه إلى هذين البعدين، فالعمران، وما يصحبه من كثرة العلوم والصنائع والتجارة
والتمدن، هو في جوهره نسيج متظاهر مترابط ومنسجم، وشبكة من المؤسسات، أو ما يسميه
صاحب المقدمة "عوائد العمران".
عنوان التخلف في
العالم العربي ليس الفرد، بل النظام العام الذي استشرت فيه الفوضى والعشوائية
والمزاجية وضعف المؤسسات وهشاشتها، حتى غدت أرضا عاقرا لا لا تثمر ولا تزهر.
التميز الفردي عندنا
كحبات الخرز المتناثرة هنا وهناك، لا يشدها خيط ناظم.
وهو عندهم أشبه ما
يكون بقلادة منظومة محبكة متتالية الحلقات منسجمة..
وهذا، باختصار يا
سادة، هو الفرق بين محمد صلاح في ليفربول ومحمد صلاح بين صفوف الفريق الوطني
المصري..