أقدمت السلطة الفلسطينية على جريمتين عندما قمعت مظاهرة رام الله المتضامنة مع قطاع غزة. تمثلت الجريمة الأولى في أنها سلطت الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين والتي تصرفت بهمجية ووحشية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، والجريمة الثانية أنها انتهكت القوانين الفلسطينية التي تضمن حرية التعبير لجميع المواطنين.
فيما يتعلق بالجريمة الأولى، تصرفت السلطة الفلسطينية بطريقة غبية جدا بحيث أنها أساءت لنفسها أمام الجماهير الفلسطينية المشاركة في التظاهرة وغير المشاركة، وبدل أن تصنع السلطة لنفسها صورة حسنة، تصرفت بطريقة وقحة ورسمت لنفسها صورة بشعة جدا أدت إلى انتقادات جماهيرية ساخنة. وفي هذا ينطبق على السلطة القول: "اللهم اجعل تدميرهم بتدبيرهم." لقد كان التصرف غبيا جدا، وهو يدل على انعدام النصح والإرشاد والمستشارين الأمناء. واضح أن السلطة تتصرف بعنجهية ودون دراسة علمية ودون استشارة خبراء بحركة الجماهير. وهذه هي مشكلة المتفردين بالسلطة. في كل قطر عربي هناك من يسمى "أبو العرّيف،" أي الذي يعرف كل شيء، ولا حاجة له بالخبراء والمستشارين العلماء. في الحالة الفلسطينية، محمود عباس هو أبو العريف، وهو الذي يمسك بزمام الأمور الأمنية والتشريعية والتنفيذية، وما أكثر أخطاءه وتصرفاته غير الموزونة.
لقد أساءت السلطة الفلسطينية للشعب الفلسطيني عندما ظهرت على شاشات التلفاز صور ضرب المواطنين وسحل بعضهم في الشارع، وصور ضرب البنات والنساء. كثيرون في العالم يشعرون مع غزة ويتحسسون معاناتها ويتضامنون معها، بينما يقوم الفلسطيني بضرب الفلسطيني واعتقاله لأنه يتضامن مع غزة. هذا هو العار بعينه. ومن أشد صور العار أن هذا الضرب والقمع يتزامن مع مظاهرات فلسطينية تخرج تأييدا لعباس، أي تأييدا لإجراءاته ضد قطاع غزة. شعوب تخرج دفاعا عن غزة ولرفع الحصار، بينما جموع فلسطينية تخرج تأييدا لتعذيب أهل غزة. وهذا يؤشر بقوة على ضعف الثقافة الوطنية الفلسطينية.
لكن يبدو أن السلطة تداركت الأمر في مظاهرة بيت لحم، وتصرفت مع المتظاهرين بأخوية وقدمت لهم الماء.
أما الجريمة الثانية فتتمثل باستهتار السلطة الفلسطينية بالقوانين الفلسطينية. هناك من يقول إن السلطة الفلسطينية تحرص على تطبيق القوانين وهي تطبقها بعدالة ودون تمييز بين مواطن وآخر. هذا كذب، وأكبر دليل على ذلك أن رئيس السلطة الفلسطينية ينتهك القانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وينتهك القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، ويعطل أعمال المجلس التشريعي، ويصدر قرارات بقوانين دون وجه حق، ولا أحد يحاسبه. وبذلك هو يصنع الفتن والمشاكل التي تمزق الشعب الفلسطيني. انتهاكه للقوانين واضح ولا يحتاج إلى خبراء قانونيين، لكن الشرطة لا تتحرك ضده لضبط سلوكه وضبط حسن العمل لدى الشعب. وكم من مرة تم اعتقال أشخاص بحجة صناعة الفتن وبأوامر من المدعي العام الفلسطيني، لكن رأس انتهاك القوانين وصناعة الفتن بقي بمنأى عن الاعتقال. وفي قمع المظاهرات، انتهكت السلطة الفلسطينية قانون حرية الرأي والتعبير، وضربت بالقيم الديمقراطية بعرض الحائط، ودون أن يتحرك المدعي العام لاعتقال المنتهكين.
تقول السلطة الفلسطينية إنها لم تقصد مخالفة القوانين، وإنما قصدت منع التنغيص على المواطنين أيام عيد الفطر المبارك: على اعتبار أن التظاهرات تعرقل حركة السير وحركة المواطنين والمشاة في الشوارع التي تكتظ بالمتسوقين. تبرير أقبح من ذنب. شوارعنا فوضى طوال الوقت، ومخالفات السيارات والمشاة لقواعد السير لا تحصى، ولا توجد شرطة، إلا ما ندر، تعمل على تنظيم الحركة. التبرير ساذج ويستهتر بالعقول.
والسؤال: إذا كانت السلطة لا تريد التنغيص على الناس في شوارع الضفة الغربية، فلماذا تعمل على تنغيص حياة أهل غزة من خلال إجراءاتها؟ فهل أهل الضفة الغربية أبناء الطهارة بينما أهل غزة أبناء الزنى؟ هذا علما أن تضامن أهل الضفة الغربية مع غزة جاء متأخرا جدا وبعد أن وجهت انتقادات شديدة للناس في رام الله ونابلس والخليل. وكان من المفروض ترسيخ ثقافة التضامن الفلسطيني من خلال مختلف البرامج التعليمية والتربوية والإعلامية، وإفهام الناس أن الضائقة التي تصيب جزءا من الشعب الفلسطيني تصيب الجميع، والخير الذي يصيب جزءا يصيب الكل. لكن المؤسف أن ثقافة التضامن والتكافل والعمل الجماعي تغيب كثيرا عن الأذهان، وهي ليست أولوية تثقيفية لدى السلطة الفلسطينية. وواضح أن الشعب الممزق بالنسبة للسلطة أفضل بكثير من الشعب المتكاتف لأن التمزيق يمنح السلطة حرية العمل في التنازل والتعاون مع الاحتلال. وبناء على هذه الفلسفة الاجتماعية الفاسدة، كان التقدير أن المصالحة لن تحصل، وأن الوحدة الوطنية الفلسطينية ليست هدفا فلسطينيا رسميا.
وقد كان جليا أمام مختلف وسائل الإعلام أن المظاهرات المؤيدة لغزة كانت تتحرك ضمن آداب التظاهر السلمي. لم يعتد المتظاهرون على أحد، ولم يمسوا الممتلكات الخاصة والعامة، ولم يشيعوا فوضى في الشارع. السلطة هي التي اعتدت، وهي التي نشرت الفوضى في الشارع، وهي التي نقلت للعالم صورة بشعة عن الشعب الفلسطيني.
كانت تأمل السلطة الفلسطينية والصهاينة ودول الغرب وبعض دول العرب أن يؤدي الحصار والإجراءات الشرسة والحروب ضد قطاع غزة إلى تثوير أهل غزة ضد المقاومة الفلسطينية وإجبارها على التخلي عن السلاح، لكن هذا لم يحصل. ما حصل هو أن أهل الضفة الغربية بدأوا يخرجون للضغط على السلطة من أجل عدم المشاركة في الحصار على غزة. لقد انقلب السحر على السحرة، وبدل أن يتعزز أملهم في القضاء على المقاومة أصبحوا يخشون الارتدادات العكسية.