أثار اللاعب محمد صلاح أزمات متتابعة خلال الفترة الأخيرة، بعد أن أصبح نجما عالميا كبيرا، وأصبحت كل - أو أكثر - أفعاله محلا للانتقاد، ودخل صلاح في حالة الصراع في مصر، والذي لا يزال الجزء الجماهيري منه، لظروف كثيرة، لم يتجاوز الجدل الكلامي. ربما يتطور الصراع الجماهيري لاحقا، ولكنه حتى الآن على الأقل ما زال صراعا في مساحة النقاش والجدل.
وفي أي صراع، يسعى الطرفان للحصول على أكبر قدر من التأييد والدعم من الوجوه المحبوبة من الجماهير في أي مجال، ومن المفترض أن يحترم طرفا الصراع رغبة أي من هؤلاء المشاهير في اعتزال الصراع، إلا أن النظام الذي أصبح هو الدولة، وخاصة في مصر، لا يقبل ذلك على الإطلاق، ويظهر ذلك بوضوح في المجالات الأكثر جماهيرية الإعلام وكرة القدم والتمثيل، فهي لم تعد مجرد مجالات ترفيهية أو إخبارية؛ بل أصبحت إحدى أدوات السلطة لضبط إيقاع حركة المجتمع وصناعة أفكاره ووعيه. قد تكون في أصلها ليست كذلك، إلا أن طبيعة تطور النظام المركزي، بالإضافة لكونه استبداديا لا يقبل بغير السيطرة على الجماهير، قد يسمح بها في مجالات أخرى أقل جماهيرية، كالمسرح وبعض الإصدارات الثقافية والتي لا يمكن وصفها بالجماهيرية، إلا أنه لا يقبل إطلاقا بخروج هذه المجالات الثلاث من سيطرته المطلقة واستغلاله الكامل لها لحصار الجماهير.
"الحياد" في هذه المجالات هو وهم كبير: إما أن تكون معنا تماما أو أنك عدو كامن. فحجم النجومية المصنوعة لا يسمح بالحياد، فما بالك بالدخول في الصراع كطرف معاد للنظام أو الدولة
لذلك فـ"الحياد" في هذه المجالات هو وهم كبير: إما أن تكون معنا تماما أو أنك عدو كامن. فحجم النجومية المصنوعة لا يسمح بالحياد، فما بالك بالدخول في الصراع كطرف معاد للنظام أو الدولة؟ ربما نسينا جميعا اللاعب أحمد عبد الظاهر الذي رفع إشارة رابعة في إحدى المباريات، وانتهى وجوده تماما ولم نعد نسمع عنه، كما أن أحد ألمع النجوم في مصر، محمد أبو تريكة، أصبح مصنفا إرهابيا؛ لأنه لا يريد أن يؤيد النظام الحاكم. إن الكرة لم تعد لعبة كرة قدم، بل إحدى أدوات السلطة كما ذكرنا، وغير مسموح لأحد غير السلطة استخدامها لصالحها، وغير مسموح لأعضائها الغناء إلا على أنغام السلطة، فمئات المليارات التي تدفع عبر العالم من أجلها لن تكون من أجل أن يعلن معارضو الأنظمة عن أنفسهم عبرها.
لذلك، فلا يمكن أن تكون محايدا في هذا المجال، وكلما ارتقيت بشكل أكبر وأصبحت نجما لامعا يقل الهامش المتاح لك، وتصبح أداة أكثر أهمية في صناعة الصورة، ويكون ثمن "الخطأ" كبيرا للغاية وربما مدمر. فالأزمة ليست بالضرورة في الأشخاص المنتمين لهذه المجالات، على الأقل قبل الانتماء لها، ولكنها أزمة في طبيعة المجال ومدى علاقته بالسلطة المركزية. لذلك، فعندما تقرر الدخول والتميز في هذه المجالات فكن على علم أنك في الغالب لن تكون حرا، بل أنت إحدى أدوات السلطة وعليك أن تتخذ قرارك من البداية.
التمرد لا يأتي بقرار؛ ولكنه نتيجة طبيعة شخصية وظروف ضاغطة لم تتوفر لمحمد صلاح، لذلك لم يستطع إظهار جزء من التمرد، مع أن المجال فيه متسع لذلك كونه خارج مصر
هل التمرد ممكن؟ نعم بالتأكيد دائما يمكنك التمرد، وخاصة إذا كنت خارج سيطرة النظام ولو بشكل جزئي، إلا أن هذا التمرد لا يأتي بقرار؛ ولكنه نتيجة طبيعة شخصية وظروف ضاغطة لم تتوفر لمحمد صلاح، لذلك لم يستطع إظهار جزء من التمرد، مع أن المجال فيه متسع لذلك كونه خارج مصر، وله من القوة الناعمة ما تمكنه من فعل ذلك، إلا أنه لم يفعل، قد يكون السبب عدم اهتمامه بالصراع كاحتمال وارد كما ذكرنا؛ أو يتجنب الصدام مع النظام الذي لا يرحم النجوم المعارضين له، أو يكون فعلا مؤيدا للنظام الحالي ونحن لا نريد أن نرى ذلك.
هل الرفض ممكن؟ نعم ممكن، وأكثر سهولة بالتأكيد أن ترفض بعض الأمور التي لن تضيرك كثيرا، ولكن الرغبة في أن تظهر "محايدا" وأن تكون "موضوعيا" بعيدا عن الأحكام المسبقة؛ تجعلك تقع في أقصى الأمور تطرفا لصالح السلطة الأقوى، وتكون الجملة السحرية الدائمة للهروب من المأزق "أنا محايد". إن ظهور محمد صلاح مع رئيس الشيشان رمضان قديروف أمس والاحتفاء البالغ به منه؛ يؤكد استحالة الفصل بين النجومية الكبيرة وبين السلطة. فالظهور مع "النجم" بالتأكيد يزيدك تألقا، ويزيد النجم ارتباطا بالنظام ويدعمه في حروبه، سواء كانت حروبا شريفة أم قذرة. وليس هذا مجال للحديث مع ما يحدث في الشيشان، ولكن فقط نتذكر مؤتمر جروزني الكارثي العام الماضي.
هناك نماذج محددة مؤطرة تماما كي تصبح نجما، أو بمعنى أدق كي تحافظ على نجوميتك، وهناك مساحات يمكنك المقاومة داخلها في حدود
هناك نماذج محددة مؤطرة تماما كي تصبح نجما، أو بمعنى أدق كي تحافظ على نجوميتك، وهناك مساحات يمكنك المقاومة داخلها في حدود، هذا إذا ما كنت تمتلك رغبة في التمرد أو الرفض، أما إذا كنت موضوعيا فوتوغرافيا، بتعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، فستستمر في فعل أي شيء وتبتعد عن أي احتمال للرفض أو المقاومة، وستكون أداة في يد من يشاء للعب بك، حتى إن كان رمضان قديروف رئيس الشيشان.
نحن لا نعلم فيم يفكر محمد صلاح، ولماذا لم يقر رفض أي شيء أو المقاومة في أمور يستطيع أن يفعلها، ولكننا نعلم أن أصل الأزمة بالتأكيد ليست في صلاح، ولكنها في نماذج صلبة للغاية؛ هي ما يجب أن نفككها حتى لا يكون التمرد انتحارا على غرار المقاطعة الثالثة عشر في سلسلة ألعاب الجوع.