لم يكن ضم المتحدث العسكري الرسمي السابق لحزب الوفد المصري (العريق) أولى خطوات عسكرة الأحزاب، ولن يكون آخرها، حتى تكتمل المهمة بنجاح، ويصبح للهيئة العسكرية الحاكمة أحزاب تعبر عنه سياسيا، وتختص ببعض الأمور المدنية، وبذلك تضرب عصفورين بحجر واحد: فهي توكل بعض المهام الشكلية والبيروقراطية لهذه القشرة المدنية، وتحملها أي أخطاء أو قصور، وفي نفس الوقت ترضي الإدارة الأمريكية التي تضغط عليها للسماح بشكل حزبي في مصر.
حزب الوفد هو أقدم حزب مصري، إذ يعود تأسيسه إلى مطلع عشرينيات القرن الماضي على يد الزعيم سعد زغلول، والذي خلفه في رئاسة الحزب الزعيم مصطفى النحاس، وصولا إلى الزعيم فؤاد سراج الدين في الإحياء الثاني للحزب مطلع الثمانينيات. ولكنه دخل الحظيرة على يد رئيسه التالي لفؤاد سراج الدين، وهو نعمان جمعة الذي ربطته صداقة خاصة مع الأمين العام للحزب الوطني الحاكم في عهد مبارك الدكتور يوسف والي، والذي كان نعمان محاميه الشخصي في مواجهة حملة صحفية قوية قادتها صحيفة الشعب المعارضة والناطقة بلسان حزب العمل المعارض أيضا أواخر التسعينيات، وكان آخر رئيس للحزب قبل رئيسه الحالي هو الدكتور سيد البدوي الذي تربطه علاقة عائلية مع حسن عبد الرحمن، رئيس جهاز أمن الدولة في عهد مبارك. كما أن البدوي كان أحد قادة جبهة الإنقاذ التي مثلت القشرة المدنية لانقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، ورغم جهوده الكبيرة لدعم الثورة المضادة وانقلابها، إلا أنه جرى إبعاده عن الحزب، ودفعه للتخلي عن شبكة تلفزيون الحياة بعد تراجعه عن الترشح لمنافسة السيسي شكليا في هزلية الرئاسة الماضية، ليحل محله شخص أكثر قربا من السيسي، وهو المحامي بهاء أبو شقة، والد محمد أبو شقة (محامي السيسي وأحد أقطاب حملته الرئاسية). وكانت أحدث الخطوات لعسكرة الحزب الأقدم في مصر هي ضم العميد محمد سمير، المتحدث العسكري السابق له، ومنحه منصب مساعد رئيس الحزب ورئيس لجنة الشباب في يوم انضمامه، وهو ما يجعله عضوا في الحلقة الضيقة جدا التي تدير الحزب، بل يجعله الموجه الرئيس لدفة الحزب بناء على توجيهات الجهة التي كلفته بالمهمة.
بنظرة على خارطة الأحزاب المصرية الحالية، والتي تتجاوز مئة حزب، نكتشف أنها تضم عدة أحزاب بخلفيات عسكرية، أي أن مؤسسيها أو قادتها هم جنرالات سابقون، سعوا إما من تلقاء أنفسهم أو بدفع من جهات أمنية؛ لتأسيس تلك الأحزاب عقب ثورة يناير بهدف استعادة الحكم العسكري من خلال المنافسة الحزبية، وكان في طليعة تلك الأحزاب حزب الحركة الوطنية الذي أسسه الفريق أحمد شفيق، المرشح الرئاسي السابق، والذي ضم عددا من الجنرالات معه، بهدف ملء فراغ الحزب الوطني. وعلى خطاه سار الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري السابق الذي أسس حزب مصر العروبة، كما حاول اللواء مراد موافي، رئيس المخابرات السابق، تأسيس حزب الريادة، لكن الأمر لم يكتمل، وأسس الفريق جلال هريدي، مؤسس الصاعقة المصرية، حزب حماة وطن، وأسس اللواء عبد الرافع درويش حزب فرسان مصر، كما أسس العميد السابق بالجيش سيد الجابري؛ حزب "المصري".
بنظرة على خارطة الأحزاب المصرية الحالية، والتي تتجاوز مئة حزب، نكتشف أنها تضم عدة أحزاب بخلفيات عسكرية، أي أن مؤسسيها أو قادتها هم جنرالات سابقون، سعوا إما من تلقاء أنفسهم أو بدفع من جهات أمنية؛ لتأسيس تلك الأحزاب
إعادة هندسة وهيكلة الحياة الحزبية هي رضوخ لضغوط الإدارة الأمريكية الحالية التي طلبت من السيسي السماح بهامش للعمل الحزبي، حتى تستطيع مواجهة ضغوط الكونجرس وغيره من مراكز القوة الأمريكية التي أوقفت جزءا من المساعدات الأمريكية لمصر مؤخرا، ولأن السيسي لا يريد عودة الديمقراطية والمنافسة الحزبية، فهو يتحرك لإيجاد شكل فارغ المضمون للحياة الحزبية، يقوم ظاهريا على فكرة وجود حزبين كبيرين على النسق الأمريكي (مثل الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري)، بحيث يتم دمج الأحزاب المصرية القائمة حاليا في حزبين فقط، لكنه لن يسمح بتداول السلطة فيما بين الحزبين، كما هو الحال في النظام الأمريكي، بل سيكون هناك حزب حاكم دوما، وحزب معارض دوما، وكلاهما برعاية السلطة العسكرية الحاكم الحقيقي في كل الأحوال.
وقد جرت خلال الأيام الماضية - بالفعل -
مناقلات لنواب البرلمان بين بعض الأحزاب، رغم أن الدستور الحالي يسقط عضوية أي نائب يغير صفته الحزبية، حيث يعتزم أكثر من 50 نائبا من حزب المصريين الأحرار الانتقال إلى حزب "مستقبل وطن" الذي أسسته المخابرات الحربية عقب الانقلاب وقبيل الانتخابات البرلمانية في 2015، واستوردت له مؤخرا نائب رئيس حزب الوفد (النائب حسام الخولي) ليتولى أمانته العامة، نتيجة غياب الخبرات في الحزب الذي يتهيأ لدور حزب الأغلبية الحاكم. وبخروج حزب مستقبل وطن من "ائتلاف دعم مصر"، يفقد ذلك الائتلاف قوته، وهو الذي قاد الحياة البرلمانية في الفترة الماضية بأكثرية نيابية ضمت 317 نائباً منهم 101 عضو عن 7 أحزاب و216 عضوا مستقلا، وقد سعى الائتلاف للتحول إلى حزب ليكون هو حزب الأغلبية، وقد هرول إليه عدد من النواب المستقلين والحزبين لحجز مكانهم، ولا تزال الصورة قيد التشكل بالنسبة للحزب الذي يجري تأهيله ليكون حزب الأغلبية الحاكمة.
حزب الوفد رضي من الغنيمة بالإياب، قابلا القيام بدور حزب المعارضة بعد أن تعهدت المخابرات الحربية بمساعدته في ضم أحزاب أخرى إليه
حزب الوفد رضي من الغنيمة بالإياب، قابلا القيام بدور حزب المعارضة بعد أن تعهدت المخابرات الحربية بمساعدته في ضم أحزاب أخرى إليه، وبعد أن أعارته الناطق العسكري السابق. وقد عقد الحزب - ولا يزال يعقد - اجتماعات بحضور حوالي 90 حزبا صغيرا لتشكيل التكتل المعارض منها، والغريب أن هذه التشكيلة تضم أحزاب متناقضة في توجهاتها السياسية، مثل حزب الوفد نفسه، وهو حزب يميني ليبرالي، وحزب التجمع، وهو حزب يساري اشتراكي ومعه الحزب الناصري.
تبقى الصورة غير واضحة بالنسبة للأحزاب ذات الخلفية الإسلامية، مثل حزب الوسط والبناء والتنمية والنور والاستقلال، والتي لا تزال تعمل رسميا من داخل مصر (حزب مصر القوية جمد نشاطه بعد اعتقال رئيسه عبد المنعم أبو الفتوح والقيادي محمد القصاص)، وأغلب الظن أن هذه الأحزاب ستبقى على حالها دون اندماج، ناهيك عن أن النظام يتربص بها، ويضيق عليها، ويسعى للخلاص منها، بعد أن تخلص من أكبرها، وهو حزب الحرية والعدالة، وهناك دعوى أمام القضاء لحل حزب البناء والتنمية، كما أن هناك العديد من البلاغات مقدمة ضد أحزاب أخرى تنتظر اللحظة المناسبة لتحريكها، وأما غالبية الأحزاب المنتمية لثورة 25 يناير فقد لوثت نفسها بوصمة 30 يونيو؛ مكونة ما أسمته تحالف 25/30، والذي آثر البقاء في أوضاع مزرية خلال الفترة الماضية، وخاصة عقب إقرار اتفاقية تسلييم جزيرتي تيران وصنافير التي تعهد بعدم تمريرها، أو الاستقالة من البرلمان حال تمريرها، وهو ما لم يحدث.
كانت المرحلة الأولى هي إعادة هيكلة الإعلام، بحيث وضعت المخابرات الحربية يدها على غالبية القنوات والمنابر الإعلامية الخاصة، عبر صفقات ومناقلات استخدمت فيها واجهات مدنية
إعادة هندسة الحياة الحزبية لتتمحور حول حزبين رئيسين أحدهما "حاكم دوما" وآخر "معارض دوما"، مع التضييق إلى حد الخنق على الأحزاب الأخرى، سواء كانت بخلفية إسلامية أو ينايرية فقط، يمثل الخطوة الثانية لإعادة هندسة الحياة العامة في مصر في ظل الجمهورية العسكرية الجديدة. وقد كانت المرحلة الأولى هي إعادة هيكلة الإعلام، بحيث وضعت المخابرات الحربية يدها على غالبية القنوات والمنابر الإعلامية الخاصة، عبر صفقات ومناقلات استخدمت فيها واجهات مدنية، وقد تكون المرحلة الثالثة هي إعادة هندسة العمل الأهلي لإستئصال الجمعيات الكبرى التي تعتبرها منبعا للتطرف يلزم تجفيفه، مثل الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة والجمعية الخيرية، أو على الأقل فرض قيادات عسكرية لإدارتها مثل بعض الأحزاب.