اتصلت بي إحداهن، وهي على درجة عالية من الثقافة والعلم، تسألني عن سر صمت
الضفة الغربية بشأن حق العودة ومسيراته التي تجري في قطاع
غزة. قالت إن غزة تعاني بشدة من ضيق المعيشة الذي يفرضه
الحصار، والضفة الغربية تعاني بطريقة مختلفة، على الرغم من سعة المعيشة مقارنة بغزة، فلماذا تتحرك غزة بكل قوة وعنفوان والتزام وإصرار، بينما لا تتحرك الضفة الغربية إلا بالنزر اليسير وعند بعض نقاط التماس؟ وجدليتها تقول إن هناك من الأسباب ما يكفي ليتحرك الناس بالضفة الغربية دفاعا عن حقوق الشعب
الفلسطيني.. وأرادت إجابة موجزة ومركزة.
والجواب هو أن جهات عدة، على رأسها السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني والولايات المتحدة، عملت منذ قيام السلطة الفلسطينية على هدم وتدمير الثقافة الوطنية الفلسطينية والمنظومة القيمية الأخلاقية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. وقد نجحت في الضفة الغربية، لكن إفلات غزة من قبضة السلطة نجاها إلى حد كبير من التخريب. الثقافة الوطنية ما زالت ملموسة بشكل كبير في غزة، ومعها يتوفر الشعور بالمسؤولية الوطنية والالتزام، لكن هذه الثقافة ذوت بصورة خطيرة في الضفة الغربية، فخف تفاعل الناس إجمالا مع الوقائع التي تستلزم رص الصفوف. وقعت ثلاث حروب متتالية ضد غزة، واكبها قتل جماعي ودمار هائل، لكن تفاعل شعوب أخرى مع غزة كان أكثر من تفاعل الضفة الغربية وغزة تُحاصر على مدى سنوات، وأناسها يعيشون مرارة الحياة وقسوتها، ولكن الضفة الغربية شريك في الحصار.
عملت مختلف القوى المشار إليها بوسائل متعددة على تدمير نفسيات الناس الوطنية بخاصة في الضفة الغربية، وإبعادهم عن الهموم الوطنية. ومن هذه الآليات سياسة الفساد والإفساد التي اتبعتها السلطة، والتي ما زالت موضع انتقادات مستمرة منذ قيام السلطة حتى الآن. ومن أراد أن يخرب مجتمعا، فما عليه إلا أن يضرب نسيجين، وهما الاجتماعي والأخلاقي. مهمة الفساد هي قيادة الناس نحو انتهاك القيم والقوانين والأعراف الوطنية، وتطوير ثقافة الفهلوة التي تتميز في العمل على انتزاع ما يتمكن الشخص من الآخرين ظلما وبهتانا، دون أن تلاحقه المسؤولية القانونية. وإذا كان رب البيت فاسدا فإن علينا توقع ميل الآخرين نحو الفساد، ولسان حال الأشخاص يقول إنه إذا كانت الأرض مليئة باللصوص، فلماذا لا أصبح أنا لصا وأريح نفسي من همّ العمل والإنتاج؟ انتشر الفساد بصورة واسعة على المستوى الرسمي، فأخذ المستوى الشعبي يقلد قياداته التي زعمت أنها وطنية. ومع هذا الفساد انتشرت ثقافة الزعرنة، وهي العربدة على الآخرين وإرعابهم وإرهابهم وابتزازهم، وهذه ثقافة انتشرت في مختلف القرى والمدن، وما زالت مستمرة حتى الآن. وبسبب اعتداءاتهم المتكررة على الناس، أصبح العديد من الزعران أثرياء وأصحاب كلمة في المجتمع وفي عالم الاقتصاد الداخلي.
وتمت الهجمة على النظام التعليمي لكي يغيّب البعاد الوطني عن التدريس، ويشوه التاريخ والفكرة الدينية إرضاء للصهاينة وتلبية للشروط الأوروبية والأمريكية. أهل الغرب الذين أقاموا الكيان الصهيوني وشردوا شعبنا هم الذين تحكموا على مدى السنين بمناهجنا التعليمية وبرامجنا الإعلامية، وحتى بالكثير من قوانينا، وعملوا على استبعاد الأفكار الوطنية والالتزام الوطني عن هذه المناج.
أما الآلية الأكثر نجاعة في سلب إرادة الناس، فتمثلت بضرب اطمئنان الناس لأحوالهم المعيشية وأوضاعهم المالية. لقد ربطت السلطة الفلسطينية، وبتشجيع من الصهاينة والأمريكيين، لقمة خبز جزء كبير من الناس بالرواتب، والتي كانت أموالها تأتي بداية من الخارج، وذلك لكي ينتبه الموظفون إلى ما يقولون وما يفعلون، فلا يعارضون أو ينشطون في مجالات لا يرضى عنها الصهاينة. أي كان على كل موظف أن يراقب نفسه وهو يعلم أن هناك أجهزة أمنية فلسطينية وصهيونية تراقبه وتتبع أخباره ونشاطاته. ثم فتحت للناس أبواب التسهيلات المالية البنكية، لتصبح نسبة كبيرة من الناس مدانة للمصارف، وعليها أن تفكر دائما في كيفية تسديد الأقساط، وفي كيفية برمجة النفقات الشهرية حتى تتمكن من شراء رغيف الخبز. وماذا نتوقع بعد أن ترتبط لقمة خبز الناس بإرادة العدو؟
في المقابل، كان من الضروري أن يشعر الناس بنوع من النعمة والنغنغة مقارنة بقطاع غزة. فتحت الدول الأوروبية يدها للمنظمات غير الحكومية ووظفت آلاف الناس، وقامت بتمويل مشاريع عديدة منها خدماتية، ومنها إنتاجية أنعشت بعض الناس. وكذلك فعل الأمريكيون عبر مؤسسة "يو أس إيد".
أخذ الناس في الضفة الغربية يأكلون الكت كات، في الوقت الذي لا يجد فيه أهل غزة الزعتر والزيتون. فهل تعود للناس في الضفة مسؤولياتهم الوطنية، ويضحون بثقافة استهلاكية تطورت لديهم؟ تطورت في الضفة ثقافة استهلاكية تغذت على الثقافة الوطنية، وحل الهمّ الشخصي لدى قطاع واسع من الناس محل الهم الوطني. صحيح أن الناس في الضفة يدركون صعوبة الأوضاع في غزة، لكن أغلبهم يكتفون بالتعبير عن الأسى والحزن لما آلت إليه الأمور.
ولهذا، تصمت الضفة الغربية، وأنا واثق من أن غيري سيقدم أسبابا أخرى متكاملة مع التي طرحتها. تعيش الضفة مأساة وطنية، لكن ثقافة الاستهلاك والترهل هي السائدة الآن، ولا مفر ستتغير. إنما لا أمل في التغيير ما دامت القيادة الأوسلوية متسلطة على الشعب.