بعد أن كان لا يجوع فيها عابر سبيل، أو فقير وقت الإفطار في شهر
رمضان
المبارك بسبب انتشار "
موائد الرحمن" التي تُقام في جميع محافظات
مصر، التي
اشتهرت بهذا النوع من الخير منذ قرون، بات لا يُرى أثرها، ولا تُشَم رائحتها، إلا في
أماكن قليلة وبأحجام أقل.
وتقلصت أعداد موائد الرحمن في مناطق واختفت تماما في مناطق أخرى كانت
مزدهرة بهذا النوع من أنواع التكافل الاجتماعي؛ نتيجة لسببين أولهما ارتفاع الأسعار
بشكل مبالغ فيه من ناحية، والتصاريح المطلوبة من ناحية أخرى.
وفي إحدى مدن دلتا مصر (شمال) كان يُقام نحو بضعة موائد في أماكن مختلفة
من المدينة، إحداها إلى جوار منزل نائب الدائرة في البرلمان المصري، إلا أن مراسل
"
عربي21" لم يستطع العثور حتى على مائدة واحدة صغيرة كانت أو كبيرة، وقبيل
آذان المغرب لم ير أثر حتى للمتطوعين الذين يقومون بتوزيع العصائر والتمور على العابرين
والسائرين والمسافرين وقت آذان المغرب.
شروط أمنية وغلاء
واشترطت السلطات المصرية العام الماضي عدة شروط لإقامة موائد الرحمن وصفها
البعض بالقشة التي قصمت ظهر البعير بعد غلاء الأسعار، وأنها محاولة لتقليص عدد الموائد
والتضييق على إقامتها بدعوى عدم إشغال الطريق والحرص على صحة المواطنين وسلامتهم.
وطالبت السلطات الحصول على تصاريح من مباحث إشغال الطرق، وموافقات أمنية
بعد تحريات أمن الدولة، وعدم إقامتها أمام منشأة حكومة كالمدارس أو المستشفيات، كما
يجب توافر شروط الأمان بها لمنع الحرائق، وغيرها من الشروط.
ويقول الحاج عطية متولي، مشرف سابق على إعداد إحدى موائد الرحمن في مدينته
بالشرقية، لـ"
عربي21": "لقد تضاعفت تكاليف إعداد مائدة الرحمن 10 أضعاف
مقارنة بأربع سنوات خلت، ولم يعد بمقدور حتى الميسورين أقامة مائدة واحدة".
موضحا أن "هناك أربعة بنود مكلفة لإقامة مائدة، أولها سرادق به مقاعد
وخيام وطاولات، ثانيها، أدوات الطهي ومواقد النار وأسطوانات الغاز والطهاة، ثالثها
اللحوم والخضروات والفواكه والسكر والبقوليات والأرز، رابعها العمالة القائمة على توزيع
الطعام، وتنظيف المكان".
تاريخ الموائد
وتاريخ موائد الرحمن في مصر قديم ومتجذر في عادات وتقاليد أهل مصر منذ
القرون الأولى للإسلام، وهناك آراء تقول إن تاريخ موائد الرحمن بدأت أيام الإمام الليث
بن سعد، في القرن الثاني الهجري، الذي كان فقيها وغنيا وكان يقيم موائد الرحمن.
إلا أن هناك من يقول إن تاريخ موائد الرحمن يعود إلى أحمد بن طولون مؤسس
الدولة الطولونية في مصر، في القرن التاسع الميلادي، وأنه أول من أقام مائدة الرحمن
في السنة الرابعة من ولايته، وجمع التجار والأعيان على مائدة إفطار في أول يوم من شهر
رمضان.
وتقول المسؤول الإعلامي لجمعية رسالة الشهيرة بمصر، ريهام محيسن،
"نحن نوفر وجبات للفقراء طوال العام، وليس في شهر رمضان فقط، ولا نقيم موائد،
فكل فرع يقوم بتوزيع 1200 وجبة أسبوعيا، ولدينا 60 فرعا على مستوى الجمهورية، فعدد
المحتاجين كثير".
زيادة عدد المحتاجين
وفيما يتعلق بتأثر العمل الخيري بارتفاع الأسعار، أكدت أن "ارتفاع
الأسعار أثر بشكل كبير على زيادة عدد المحتاجين كل عام من ناحية، وقدرة الناس على التبرع
من ناحية أخرى، بالإضافة إلى أن دخول الكثير من الناس ثابتة"، مشيرة إلى أن
"الطعام ليس كل شيء، فهناك علاج وتعليم ونفقات أخرى".
وعن كيفية مواجهة ارتفاع الأسعار، قالت "بدأنا في تغيير النمط للتكيف
على الغلاء من خلال استبدال نوع مهم بنوع آخر أهم، وتوفير سلعة لحساب سلعة آخرى لا
يستغنى عنها الفقير، وهي ضرورة نتجية زيادة عدد الموعوزين وزيادة الأسعار".
مدن بدون مائدة واحدة
وعجز الكثير من أصحاب الخير هذا العام عن إقامة موائد الرحمن في شوارعهم
وأحيائهم كما جرت العادة، ويشتكي الطبيب محمد عبدالعزيز من عدم قدرته على إقامة مائدة
هذا العام، وقال لـ"
عربي21": "لم أستطع هذا العام ولا العام الذي سبقه
من إقامة مائدة طوال شهر رمضان بسبب الأوضاع الاقتصادية للبلد".
وقدًر تكلفة المائدة الواحدة لثلاثين شخصا قبل نحو عامين بنحو خمسين ألف
جنيه "اليوم لا يكفي هذا المبلغ إيجار الصوان بالكراسي والأنوار والطاولات والخيام،
لا أحد لديه من المال ما يساعد به الآخرين كما كان، لأول مرة منذ نشأت في هذه المدينة
لا أرى مائدة رحمن واحدة، لا يوجد أحد قادر على تحمل تكلفتها".
لافتا إلى أنه لجأ إلى المشاركة في إحدى الجمعيات الخيرية بدلا من إقامة
مائدة، قائلا: "لم أجد سوى المشاركة بالمال في إحدى الجمعيات الخيرية التي تقوم
على توفير وجبات جاهزة للفقراء والمحتاجين، ولكن عابري السبيل لا حظ لهم هذا العام،
لقد اختفت مظاهر الخير بشكل كبير".