من بلايا هذا العصر أن يحمل لقب "الداعية" إلى الله شباب يُنافس نجوم السينما في أناقته وحضوره الإعلامي، مُتفنِّنا في الكلام المنمَّق الناعم، ومُستحوذا على إعجاب الجماهير بهالته الزَلِقة؛ فلا يتغيَّر بهم منكر، ولا يحيا بهم معروف. بل يَستمِرُّ المجتمع في الانحدار بهم ومعهم، كأنهم دُعاة على أبواب جهنم. إذ "يستريح" جمهورهم نفسيّا لمتابعة برامجهم "الممتعة"، ويستشعِرُ بذلك أنه قد تخفَّف من آثامه وقضى ما عليه لربه. كأن
الدعوة إلى الله غُنمٌ لا غُرمَ فيه؛ نزهة لطيفة نستمتِعُ فيها بمناظر صُوِّرَت في دول غربيَّة، بغير أي التزامات أخلاقية ذات أثر اجتماعي من أي نوع، ليُمسي دين هؤلاء الدعاة هو الأفيون الحقيقي، الذي يُخدِّر الطبقات التي تتابعهم ويفتنها ويُلهيها عن إصلاح أحوالها في الدنيا والآخرة.
ودين هؤلاء "الدعاة الجدد" دينٌ طبقي بامتياز؛ يُشبه في ذلك كل الأديان الوثنيَّة، مُتقاطعا في مساحات شاسعة مع التعاليم الهندوكية والمجوسية المرتبطة بالعزل الطبقي في الممارسة الاجتماعيَّة للدين، وإن كان يقترب أكثر من البروتستانتية على مستوى النزعة الفردانية التي يحملها ويخاطب بها جمهوره "الميسور" ماديّا، من جمهرة أبناء الطبقة الوسطى وبعض قطاعات الطبقة المترفة.
وبغض النظر عن مقولة عودة كثير من الشباب إلى "الإسلام"، والتزامهم تعاليمه؛ بسبب هؤلاء الدعاة، وبغض النظر عن طبيعة هذا "الالتزام" المبني على مفهوم الخلاص الفردي البروتستانتي داخل الدنيا، وطبيعة "التعاليم" التي يلتزمها المؤمن على هذا المذهب ومدى إسلاميتها، وبغض النظر عن المردود الاجتماعي السلبي لهذا "الالتزام"، فإن هذا الدين الجديد هو في حقيقة الأمر دينٌ باطِل يُكرِّسُ أوضاعا طبقيَّة مُجحفة، ويضفي عليها المشروعية. فهو مجرد دعوة لتجميل بعض مظاهر مجتمعات منخورة حفاظا على مصالح الملأ، الدعوة التي تُنفَق عليها المليارات سنويّا من الشركات الراعية، كأي "بزنس" يحترم نفسه؛ بدون أثر اجتماعي حقيقي حاشا فتنة الشباب وتخنُّثه، وكأنه مالٌ يُنفَقُ للصد عن سبيل الله تحت لافتة الدعوة إليه؛ دينُ شركٍ يُستعمَلُ لتفريغ الدين الحق من مضمونه وصد الناس عنه.
ومن المثير للتأمل أن هؤلاء الدعاة الجدد قد ظهروا كرد فعل على جفاء وجلافة جيل كامل من الدعاة
السلفيين وقصور علمهم، مع تقعُّرهم وتعالمهم على جمهورٍ أمي.. ظهروا احتجاجا على الخطاب السلفي المنفِّر في كل عناصره، لكن ربما كان العامل الأهم في ظهور هؤلاء الدُعاة الجدد هو البُعد الطبقي في الالتزام السلفي "القديم"؛ فهو التزامٌ ينبني أصلا على المجاهدة في طلب "العلم الشرعي" والارتحال، لقرى ونجوع بعيدة عن ألق المدن الكبرى؛ لتحصيل العلم من شيوخٍ مغمورين إعلاميّا. وهو التزام لا يُطيقه إلا أقل القلَّة بطبيعة الحال، لتبقى الغالبيَّة أسيرة للدُعاة/ القصَّاصين السلفيين أصحاب القدرة على تسطيح الخطاب الديني ليُلائم حاجيات الترهيب اليوميَّة!
الأكثر إثارة أن التيار السلفي نفسه قد أعاد تشكيل الجيل الجديد من دُعاته أثناء "الربيع العربي"، كرد فعل على هؤلاء الدعاة الجدد؛ فوجدنا أكثر شباب "الدعاة السلفيين الجدد" يجمعون الباقة الشيطانية المعهودة: "التنمية البشرية"، وعلوم الإدارة، مع بعض الديباجات الشرعية، علاوة على التخفُّف الواضح من الهدي الظاهر في الملبس. وحبذا لو سبق اسمه لقب "علمي": مهندس أو دكتور! وهو نوع الكوادر التي بنى عليها حزب النور
المصري نشاطه منذ تأسيسه. هذا الصراع شبه العلني بين نموذجين أو دينين طبقيين، كان كل منهما يخاطب طبقة مختلفة فيما مضى؛ لم يتحوَّل لصراع حقيقي على النفوذ إلا بعد ظهور الجيل الجديد من الشباب السلفي الذي يخاطب نفس الطبقة المترفة التي يخاطبها الدعاة الجدد، مُستخدما نفس المفردات "الأجنبية" بعد أن تدثَّرت بقشرةٍ أكثر سُمكا من الديباجات الشرعيَّة!
والحق أنني تفكَّرتُ طويلا قبل وصفه بصراع "النفوذ"، لكني لم أجد فيه من الحدود الأيديولوجية ما يجعله صراعا أيديولوجيّا حقيقيّا؛ إذ هو مجرد صراع على حظوة الجيوب الممتلئة وتمويلها لنشاطهم الدعوي الإعلامي. وكما أنك لن تعثُر بسهولة على شاب من أسرة فقيرة "يلتزم" دينيّا على نموذج الدُعاة الجدد، ومن بعدهم الدعاة السلفيين الجدد، فإنك ستجد أكثر الشباب المترف يَنفِرُ من الدعاة السلفيين التقليديين كما ينفر كل أنواع الدُعاة الجُدد من الفقراء!
والحق أن قطاعا مُعتبرا من الشباب الذي ينتمي للطبقات الدُنيا يتطلَّع لديباجات الدعاة الجُدد وما يُبشِّرون به كأنه انعتاق طبقي. ومن جهة أخرى، يصبو قطاع من الشباب الميسور والمترف للمقولات السلفيَّة التقليديَّة بوصفها فولكلورا دينيّا يمنحه مزية اجتماعيَّة داخل طبقته، إذ لا يُمكنه التمايُز بكثرة ما يملِك.
أما الشباب الذي ينتمي للشرائح الأكثر فقرا وهامشيَّة (وأكثره قروي أو يعيش على هامش المدن الكبرى)، فهو ينتمي بوضوح للنموذج السلفي الدعوي، أو على الأقل مرَّ به وساهم في تشكيل وجدانه؛ فهو النموذج الدعوي الذي كان يَعِدُ الجماهير بالآخرة وحدها، قبل إنشاء حزب النور؛ ويطلب منهم الزهد في الدنيا على طريقة البيوريتان القُدامى. يطلب منهم الزُهد احتمالا للتهميش والإذلال والإفقار (على طريقة الكاثوليك!)، لا لمُراكمة رأس المال أملا في مستقبل مُختلف (على طريقة البروتستنت!).
من المؤكد أن ماركس حين قال إن "الدين أفيون الشعوب" كان يقصِد هذا اللون من الدين؛ دين الشرك في صوره المختلفة. الجاهلية المتدثِّرة بالدين.. الجاهليَّة التي تتلاعب بالدين وتوظِّف مقولاته (بعد إفراغها من مضمونها) في تغييب الوعي الإنساني، وتبرير الاستبداد والاستغلال والاستحمار. فتصطنع دينها الباطِل، دين ظاهِره الحق وباطنه الضلال؛ لتقوض به الدين الحق. إنه نمطٌ شائع ومطرد تاريخيّا أطلق عليه علي شريعتي: "دين ضد الدين" (بالفارسيَّة: مذهب عليه مذهب)، وسُنفصِّل بعض ملامحه في مقال تال.