قبل أقل من شهرين، انطلقت دينامية سياسية في
المغرب، تندرج مكوناتها ضمن التمهيد لحكومة رجال الأعمال بقيادة عزيز أخنوش، الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار. فقد دخل الرجل في حراك حزبي، هو أشبه ما يكون بحملة انتخابية سابقة لأوانها، على شاكلة ما فعل حزب الأصالة والمعاصرة لحظة التبشير بمشروعه الجديد بعد انتخابات 2007 التشريعية.
البعض قلل من هذه الدينامية الحزبية، واعتبرها مجرد حراك لبناء شرعية سياسية لقيادة حزبية جديدة، وصلت إلى رأس حزب الحمامة، لكن مضمون هذه الدينامية وحجمها، ودرجة الاهتمام الإعلامي بها، وانخراط الإعلام العمومي في إبرازها وتكرار فقراتها في نشرات الأخبار الرئيسة، فضلا عن الظهور المكثف لرئيس الحزب في عدد من وسائل الإعلام، كل ذلك أظهر بأن الأمر هو أكثر من مجرد بناء شرعية، إذ لا يمكن أن يكون ضمن مشمول هذا الهدف شن انتقادات لاذعة لسياسات حكومية؛ يعتبر هذا الحزب مسؤولا عنها بالتضامن مع حلفائه في الأغلبية الحكومية، كما لا يمكن أن يتحول بناء الشرعية إلى الإعلان عن برنامج بديل عن البرنامج الحكومي الذي سهرت الأغلبية على إعداده، وشارك هذا الحزب بنفسه في ذلك.
نعم سارت هذه الدينامية بخط جد متسارع، غير أن تحديات القضية الوطنية، والحراك الدبلوماسي الذي دخل فيه المغرب لمواجهة سيناريو خصومه لتغيير الوضع على الأرض في المنطقة العازلة في الصحراء، فرضت إبطاء هذه الدينامية، وربما تأجيلها إلى ما بعد الجواب عن هذا التحدي، إذ تطلب الأمر من المغرب تعبئة جبهته الداخلية وتوحيدها، وتأجيل أي مناكفة سياسية أو حزبية يمكن لها أن تؤثر على الصف الداخلي، وتضعف جاهزيته لمواجهة مناورات خصوم الوحدة الترابية.
اليوم، وبعد أن ظهرت مؤشرات انتصار نسبي في معركته الدبلوماسية، بعد أن زاوج المغرب بين الضغط السياسي والتلويح بالتدخل العسكري، عادت دينامية الإعداد لحكومة رجال الأعمال، ولكن هذه المرة، من زاوية أخرى، إذ أعلن حزب الاستقلال عن نيته التحول للمعارضة السياسية، والتنسيق مع حزب الأصالة والمعاصرة في هذا الموقع، بعد أن كان المجلس الوطني لهذا الحزب قد أعلن في السابق اختيار المساندة النقدية لحكومة
العدالة والتنمية، ودخل في مقاومة شرسة لمشروع حزب الأصالة والمعاصرة.
صحيح أن هذا التحول كان منتظرا، لا سيما بعد فوز نزار بركة بأمانة حزب الاستقلال، لكن ما لم يكن منتظرا أن يتم الإعلان عن التنسيق مع حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يعد أحد آليات التحكم في المشهد السياسي، وصنيعة الإدارة في الحقل السياسي.
معنى ذلك، في ديناميات الحقل السياسي، أن حزب العدالة والتنمية، الذي يقود التجربة الحكومية، سيكون مواجها في تجربته الإصلاحية من أكثر من مكون، سواء من داخل أغلبيته الحكومية التي توجد أربع
أحزاب ضمنها تؤيد سيناريو حكومة رجال الأعمال، وتدعمه وتهيئ له ولو من تحت الطاولة، ولا تجد أي حرج في معاكسة ميثاق الأغلبية الحكومية إن بدا لها أن ذلك يسير في الاتجاه القاصد لإنهاء حكومة العدالة والتنمية والتهييء لحكومة رجال الأعمال، أو من خارجها.
فحزب العدالة والتنمية اليوم عمليا مواجه داخل الحقل الحزبي بأربعة أحزاب من داخل أغلبيته الحكومية، ومن حزبين معارضين لن يترددا في تنفيذ أجندة الإدارة، مع حزب آخر يمارس معارضته من موقع قناعته الفكرية والسياسية (الاشتراكي الموحد وهو حزب يساري معارض)، هذا فضلا عن معاناته الداخلية، بسبب التوتر الناشئ داخل مكوناته بخصوص تقييم التجربة بعد إعفاء عبد الإله بنكيران، وما يمكن أن يتمخض عن مؤتمر حزب التقدم والاشتراكية المرتقب في الأسبوع الثاني من شهر أيار/ مايو القادم من حراك، بسبب رغبة بعض الأطراف التخلص من قيادته الثابتة على خط الإصلاح بالشكل الذي أسسه له حليفه السابق الأستاذ عبد الإله بنكيران.
لحد الآن، لم تظهر مؤشرات مطردة تدعم هذه الدينامية، لكن الدينامية التي تعرفها النخبة الاقتصادية وتوجه بعض قيادات حزب الأحرار للترشح على رأس الاتحاد العام للمقاولات (مزوار)، وكذا ردود الفعل الأولية التي بدأت تظهر لدى بعض الشركاء الاجتماعيين (النقابات) من جراء العرض الحكومي بخصوص التوصل إلى اتفاق نهائي بينهم وبين الحكومة من جهة، وبين والقطاع الخاص من جهة ثانية، قبل عيد العمال في فاتح أيار/ مايو المقبل، ينذر بحالة اصطفاف النخبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لخلق متاعب كبيرة لحكومة العدالة والتنمية والتهييء السلس لحكومة رجال الأعمال.
من السابق لأوانه التنبؤ اليوم بمستقبل هذه الديناميات. فقد تم تجريب هذه التكتيكات من قبل مع حكومة عبد الإله بنيكران، بشكل أكثر قسوة، لكنها فشلت كلها، رغم أنها تبنت تكتيكا أكثر خطورة حين تم الإيعاز لحزب الاستقلال بالخروج من الحكومة، وتم تحريك النقابات لخوض إضرابات مطردة ضد حكومة بنكيران، وتحول الاتحاد العام لمقاولي المغرب إلى حزب سياسي معارض بقيادة مريم بن صالح، وتم دعم هذه الديناميات باصطفاف بعض المؤسسات في خط
المعارضة!!
التحدي الذي يواجهه حزب العدالة والتنمية اليوم وحليفه الاستراتيجي حزب التقدم والاشتراكية، ليس هو منع هذه الديناميات أو مواجهتها، وإنما هو وضع شروط إحباط أثرها، وذلك استنادا إلى تجربة بنكيران في المقاومة، وذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال ضمان وحدة الصف الداخلي، وإنتاج جواب سياسي إصلاحي مقاوم، يقوي مسار الإصلاحات من جهة، ويحميها بالانغراس في المجتمع والاحتماء به، ويقاوم بكل قوة خط الانزياح عن المسار الديمقراطي، ويخوض معركة قوية أمام أي مسعى للتدخل في الحياة السياسية والتحكم في الحقل الحزبي، ويمانع أي إرادة تسعى لعودة تجربة صناعة الخرائط الانتخابية والتحكم في الحكومات لخدمة لوبيات الأعمال والمصالح.
حتى الآن، المؤشرات على إنتاج هذا الجواب غير موجودة، والمناخ الذي يخيم على انطلاق الحوار الداخلي لحزب العدالة والتنمية غير إيجابي، إذ بدل الرهان على تجميع مكونات الحزب، ورص جبهته الداخلية، يعيش الحزب على إيقاع معادلة التوجس من أن يؤدي إنتاج خطاب المقاومة إلى خسارة التوافقات وإهدار المكتسبات، ولذلك، يتم تأثيت المشهد داخل الحزب بمن يدعم خيار التوافق الهش والانتظارية، وسط حراك قاعدي يسير في اتجاه متسارع لطرح أزمة الشرعية.