لأن غزة مدينة وميناء ولدت وستبقى توأم البحر، ولأن غزة ليست غُزة التي قال شاعرها إنه مجرد ظل وصدى لها يغزو إذا غزت، ويرشد إذا رشدت؛ فهي الآن وحيدة، لكنها وحدة الرمح العاري وإن كانت تتعدد في وحدتها كي تبرهن في كل لحظة على جدارتها بالحياة.
غزة ليست قبيلة كي ينتسب إليها شعراء غُزيّة، لهذا فهي تنزف بصمت وكبرياء، ولم تعد تستغيث بغير اهلها، لأن سعاة البريد وسماسرة الإنترنت أعادوا الرسائل بحجة أنهم لم يعثروا على المرسل إليه. والمرسل إليه هو العربي الذي غيّر اسمه وعنوانه كي ينجو، وتناسى أمثولة الثور الأبيض، وحماقة سعد الذي يتصور أنه سوف ينجو بعد هلاك أخيه سعيد!
ومنذ سال على شاطئها لعاب الذئب وهي تودع رجالا ونساء وأطفالا وبيوتا، لكن البيوت أيضا تقاوم لأن أطلالها تقدم ذخيرة من الحجارة لمن قرروا أن يقولوا لا في زمن نعم، وأن من نراهم على مدار الساعة محمولين على الأعناق وعيونهم مفتوحة نحو السماء، ليسوا من كوكب آخر أو من جنس آخر، فهم عرب بالقلب والروح وليس باللسان فقط !
لم يحدث من قبل أن أنتج العرب في أردأ أزمنة الانحطاط مثل هذا التخلي والخذلان، ومن يريد أن يغسل يديه ويطفىء جمرة ضميره في البحر لن يعدم الذرائع، وسوف يبرر تخليه وبمعنى أدق نذالته واستقالته من آدميته وقوميته ودينه بشتى الأسباب، لكن المشهد الساطع تحت إضاءة حارقة لا يُتيح حتى للعميان إنكار ما يجري، وهو ببساطة أطفال ورجال ونساء من صلب هذه الأمة، وممن رضعوا تاريخها وثقافتها منذ لثغوا بأول حرف، وتعلموا أن أمهم تجوع ولا تأكل بثدييها وأن التجويع لا ينجب دائما التركيع والتطبيع، وقد ينجب براكين ضاق بها باطن التاريخ وليس باطن الأرض. أم المطلوب من غزة أن تصغر كثيرا وتصبح غُزيّة !!
الدستور الأردنية