لنحو نصف قرن، ظل منتخب/ فريق البرازيل الوطني لكرة القدم، ممثل الجماهير العربية في المنافسات الكروية الدولية، فلأن مغني الحي لا يطرب، فقد هاجر شباب العرب بأذواقهم الموسيقية إلى مايكل جاكسون ومادونا وبيونسي.
ولأن لاعب الحي لا يجيد اللعب، فقد هاجرت الجماهير العربية بعواطفها الكروية إلى البرازيل التي جعلت من كرة القدم فنا كوبراليا (كلمة هجين تجمع بين الكرة والباليه والأوبرا)، ثم انتقل عرش الكرة إلى إسبانيا، فتذكر العرب أن الإسبان منهم وفيهم (بحكم الأندلسية المشتركة)، فنقلوا ولاءهم إلى ناديي برشلونة وريال مدريد.
وفي مجال السياسة والنضال الوطني، لم يجد العرب في تاريخهم القريب والوسيط شخصية يفاخرون بها الأمم، فعادوا القهقرى بالذاكرة، وهكذا ظلت سيرة وبطولات صلاح الدين الأيوبي تتردد على الألسن، وحاول بعض المغرضين إحباط العرب بالقول بأن صلاح الدين كردي، فكان العزاء في أنه مسلم، ومن المنطقة التي صارت تعرف بـ"العربية"، تكريسا لتقليد يقضي بنسب إنجازات جميع العلماء المسلمين الذين أثروا التراث المعرفي الإنساني، للعرب.
وتبعا لذلك صارت هناك حضارة عربية وثقافة عربية، ذات خطوط ارتباط واشتباك مع الحضارة والثقافة الإسلامية، لتعذُّر رسم خارطة واضحة لها.
كتبت قبل نحو خمس عشرة سنة، مقالا نشرته في عدد من الصحف الخليجية بعنوان "أما لنا سوى صلاح الدين"، قلت في جانب منه: العالم كله يتحرك إلى الأمام، لتحقيق الغايات ونيل المرام، يخترعون الإنترنت وطائرات تطير بلا بنزين.
ونحن نقول لهم عندنا صلاح الدين، وبسطوا سيطرتهم من الأطلسي إلى بلاد الرافدين، فهددناهم بأننا أحفاد "الزنكي" عماد الدين، استخدموا الليزر كسلاح ولجراحة العيون، فقلنا: "ولو" عندنا ابن خلدون، هم يربون أجيالا للمستقبل والغد، ونحن نعيد استنساخ ابن رشد، غزوا الفضاء وتعلموا لغة الحيتان، ما علينا فعندنا جابر بن حيان.
أنتجوا التوربين النووي والمحرك الغازي، ونحن توقفا عند أبو بكر الرازي، أتوا بالفاكس والفوتو كوبي، فزعمنا انهما من اختراع اليعقوبي، ويهاجر خيرة أبنائنا غربا للتنقيب في المعلوم والمجهول، فنتهم الغرب بسرقة ما عندنا من عقول، في حين أن التفكير والبحث العلم عندنا، لا يسبب سوى الملاحقة والضنى، عالم الفيزياء يشتغل في قسم المجاري، والصعلوك الصفيق محاصر بالطنافس والجواري، مؤسسات تدَّعي أنها "علمية"، تكرس الجهالة والضلالة والأمية)
وعندما بدأت العولمة ببطء، مع الثورة الإعلامية المتمثلة في انتشار التلفزيون، وجد العرب كما بقية الشعوب المضطهدة في أرنستو جيفارا البطل الأمثولة، ورغم أن الرجل ماركسي/ شيوعي على طريقته الخاصة، إلا أن صوره تزين في يوم الناس هذا، صدور جهاديين مسلمين متطرفين في جميع القارات.
ولا أحسب أن هناك زعيما سياسيا ورئيس دولة في التاريخ المعاصر، فاز بقلوب الملايين في كافة أقطار الأرض، كما الزعيم فيدل أليخاندرو كاسترو، وما كان لغيفارا أن يحظى بذكر لولا أن مسيرته ارتبطت بكفاح كاسترو لإسقاط حكم الديكتاتور باتيستا، الذي كان عميلا رخيصا للولايات المتحدة، التي سيطرت طوال أكثر من نصف قرن على كل ما فوق الأرض وما تحتها من ثروات كوبا.
ومنذ أن صار كاسترو رئيسا لكوبا، ناصبته الولايات المتحدة العداء، خاصة أنه حوّل كوبا إلى دولة اشتراكية تهتدي بالماركسية، وحاولت اغتياله ستين مرة، ثم حشدت أسطولا عسكريا وبشريا ضخما لغزو كوبا في عام 1961، وفشلت العملية، وارتفعت أسهم كاسترو الجماهيرية.
وقد يقول قائل إن الزعيم الجنوب أفريقي نلسون مانديلا كان الأكثر جماهيرية على مستوى الكرة الأرضية، خصوصا بعد وصوله إلى كرسي الحكم، وإدارة دفة بلاد عانت من تراكم مظالم بشعة بعقلانية، وبدون الكيد لبيض جنوب أفريقيا الذين ساموا سكان البلاد الأصليين سوء العذاب لمئات السنين.
ولكن ما كان لمانديلا أن يكون ما كان، لولا الوقفة الصلبة لكاسترو مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في نضاله ضد نظام الفصل العنصري، الذي كان يتمتع بدعم من الولايات المتحدة، أقوى من ذاك الذي ظلت وما زالت تقدمه لإسرائيل.
بل إن قوات بعث بها كاسترو إلى أنغولا، هي التي وجهت الضربة القاضية للمستعمرين البرتغال هناك، ثم لاحقا في موزمبيق.
ورغم أن كاسترو كان شيوعيا، إلا أنه تمتع باحترام شعبي دولي لم يحظ به قادة الاتحاد السوفييتي رعاة الحركة الشيوعية العالمية، بل وقامت دول اشتراكية في أوربا الشرقية في أواخر أربعينيات القرن الماضي، ودالت في مطلع تسعينيات ذلك القرن، دون أن يعرف معظم الناس أسماء قادتها المتعاقبين.
ورغم أن كاسترو كان مثل الزعماء الاشتراكيين في أوربا الشرقية، يعتبر موسكو قبلة الاشتراكية، إلا أن ما جعل كاسترو نسيج وحده، هو أنه وصل إلى السلطة بعرق جبينه، ولم يكن مثل الطراطير الذين وصلوا قصور الرئاسات في أوربا على صهوة الدبابات السوفيتية.
وما رفع أسهم كاسترو على الساحة الدولية أنه لم ينحن قط للضغوط الأمريكية، وتنحى عن السلطة في فبراير 2008، وآلت مقاليد الأمور الى أخيه راؤول، ليس بنظام حافظ-بشار الأسد، أو الخطة التي كانت موضوعة لـ"ترئيس" جمال مبارك، ولكن لأن راؤول كان رفيق كاسترو في النضال منذ خمسينيات القرن الماضي.
وقبل أيام قليلة تنحى راؤول عن الرئاسة، وصار ميغيل دياز كانيل رئيس الجمهورية والوزراء في كوبا، منهيا بذلك ستين عاما من حكم آل كاسترو، ومتعهدا بالسير على درب فيدل وراؤول.
خمسة عشر عاما على كارثة الحرب التي ولدت سلسلة من الكوارث