لا يوجد ديكتاتور على مر التاريخ يكون على وئام مع الثقافة
والمثقفين، ولا العلم والتعليم، ولا أي أداة تنشر الوعي بين الناس؛ لأن هذا كله ضد
صناعة الديكتاتورية، فالجهل والغوغائية هي الأداة السهلة والرخيصة والسريعة لصناعة
الوثنية السياسية، في أي مكان وأي زمان؛ لذلك تكون معركة الوعي والثقافة والعلم هي
إحدى أهم المعارك الكبرى التي يتوجب أن يخوضها كل مهموم بصناعة المستقبل وترسيخ
الحقوق والحريات العامة وكرامة الإنسان.
هذا
الأسبوع، كان الرئيس الفرنسي الشاب "إيمانويل ماكرون" في اجتماع
للأساقفة، فأخذته النشوة لتعزيز موقعه وترسيخ مكانته بمغازلة الكنيسة ورجال الدين،
فتحدث طويلا عن أهمية العلاقة بين الكنيسة والدولة، ورغبته الصادقة في إصلاح
العلاقة التي وصفها بالمكسورة، بين الكنيسة والدولة، وأن "إصلاح" هذه
العلاقة لا بد أن يتم عبر حوار حقيقي، ثم قال: إن رئيس الجمهورية الذي يزعم أنه لا
يكترث للكنيسة أو الكاثوليك يقصر في واجباته تجاه الوطن.
ماكرون
فرغ من كلامه هذا، وكما يقول العامة في بلادنا : عينك ما تشوف إلا النور، حملة
عاتية من الهجوم عليه وشرشحته وتسخيف عقله واتهامه بالجهل بالدستور والقانون
وبالانتهازية السياسية ومغازلة رجال الدين من أجل كسب سياسي رخيص، وقال أحد قادة
الأحزاب السياسية اليسارية معلقا : "ماكرون كان في قمّة الهذيان الميتافيزيقي
الذي لا يُحتمل. لقد انتخبنا رئيساً ولكننا نسمع الآن مساعد راهب".
الانتفاضة
الفرنسية العارمة ضد رئيس الجمهورية لمجرد بضع كلمات قالها على سبيل المجاملة
لرجال الدين وللمؤسسة الدينية، تكشف عن وعي مبكر لمآلات مثل هذا الكلام إذا لم يتم
وأده في مهده، وإذا لم يتم التصدي له بكل قوة، لأنه يهدم أسس الدولة الفرنسية التي
أثمرت مكتسبات حقوق الإنسان وضمانات الحريات العامة والتعددية السياسية والتداول
السلمي للسلطة، بعيدا عن المتاجرة بالدين أو الوصاية على السلطة من قبل المؤسسات
الدينية أو توظيفها سياسيا، وتم قمع "شهوة" الرئيس الفرنسي مبكرا
وإعطائه ـ ومن بعده ـ درسا في أن لا يستغفل المواطنين، ولا يلعب هذه اللعبة في بلد
متحضر ومستنير وحر.
لعبة
الدين والدولة تم توظيفها في العالم الثالث بكثافة من قبل النظم السياسية
المختلفة، وكنت ترى أكثر النظم ديكتاتورية وقمعا أكثرهم حرصا على إظهار الاحترام
لمشاعر الدين ورجال الدين بل والنص على دين الدولة في دستور البلاد، رغم أن
الدساتير كلها لا تحترم عادة بكل نصوصها، ولكنه نوع من دغدغة المشاعر الروحية
للمواطنين، خاصة عند انتشار الجهل وغياب الوعي، وتعويضهم عن فقد الكرامة والحرية
والمشاركة السياسية بإنعاش عواطفهم الدينية ومنحها شيئا من الرضى والراحة النفسية،
بل كثيرا ما تجد النظم السياسية في العالم الثالث تلجأ إلى رجال الدين ليكونوا أحد
أدوات القمع المعنوي والروحي التي يستخدمها النظام السياسي لقهر أي دعوات معارضة
أو استعداء العوام على أصحابها، ولذلك تحرص النظم السياسية في العالم الثالث على
أن تكون المساجد والمؤسسات الدينية تحت هيمنتها وتوجيهها وسيطرتها الكاملة
والحصرية؛ لأنها لا تقل خطورة وأهمية عن وسائل الإعلام أو حتى عن أجهزة الأمن
والسيطرة.
ومن
دون شك فإن العلمانية المحايدة، وليست المتطرفة، كانت سببا في حماية الشعوب
الغربية من تغول السلطة ومن ترسخ القمع والاستبداد، وكانت سببا حاسما في حماية
الحريات الفردية وكرامة الإنسان وفرض المساواة في المجتمع، لأنها حرمت الحاكم من
أخطر أدوات السيطرة لديه، الكهنوت الديني، وأزاحت عن كاهل الشعوب تحديا خطيرا
لطالما كان يأسرهم ويقهرهم ويمكن السلطة من رقابهم ومن ضمائرهم، وكثيرا ما ترى
النظم القمعية في العالم الثالث علمانية في كل شيء، إلا في هذه المسألة، مسألة
المؤسسات الدينية، فتكون استثناء وتبدو حينها كأنها دولة دينية ثيوقراطية.
في
الفكر الإسلامي والتجربة الإسلامية لا توجد "كنيسة" كما لا توجد مؤسسة
دينية كهنوتية، وبالتالي فكرة العلمانية لم تكن مطروحة في السياق الحضاري
الإسلامي، لأن وجه الخطر فيها غير مطروح، وكان الفقهاء والعلماء لهم حريتهم
وفضاؤهم الواسع المباشر مع الناس، ولهم موقعهم المتباعد عن السلطة، بل هناك أدبيات
كثيرة في التراث الإسلامي تحذر من اقتراب العالم من السلطان، غير أن ظهور الدولة
القومية الحديثة، أنهى هذه الاستقلالية، وأنتج في دول العالم الثالث المسلمة ظاهرة
المؤسسة الدينية وما يشبه الكهنوت الديني الذي يخضع لسيطرة السلطة وتستخدمه السلطة
لتعزيز هيمنتها وقهرها للناس، وهو الأمر الذي يستوجب اجتهادا جديدا وشجاعا في
الفكر الإسلامي، لرفع الإصر عن الناس، وتحريرهم من هذا "الكهنوت" الديني
المبتدع، والذي يعوق تطلعات الشعوب للحرية والكرامة والنهوض.
المصريون
المصرية