التفجير الذي استهدف موكب السيد رامي الحمدالله في
غزة أمس الثلاثاء، لم يسع إلى اغتيال الحمدالله شخصياً، وإنما إلى اغتيال عملية
المصالحة التي كانت أصلاً في حالة موت سريري، بينما جاء
التفجير الأخير ليطلق رصاصة الرحمة عليها، وأي كان الطرف الذي يقف خلفه فيبدو أن الهدف قد تحقق.
نظرياً؛ لا يمكن استبعاد أي طرف من المسؤولية المباشرة والتنفيذية عن التفجير، ولكن عندما يتم الحديث عن تحميل المسؤولية من عدة أطراف لحماس، فهذا لا يعني أنها من يقف مباشرة خلف التفجير، وإنما عائد إلى كونها سلطة الأمر الواقع الممسكة بالملف الأمني؛ وسياسياً وأمنياً هي تتحمل المسؤولية عن حماية رامي الحمدالله والوفد المرافق، كما عن كشف ملابسات التفجير عبر
تحقيق شفاف نزيه وإعلان النتائج للرأي العام..
وكما قلنا سابقاً، فنظرياً لا يمكن استبعاد أي طرف من المسؤولية الفعلية عن تنفيذ التفجير والاستفادة من تداعياته السياسية، سواء أكانت أطرافا
فلسطينية أو إقليمية، بما فيها طبعا الاحتلال الإسرائيلي.
كونها الطرف المتحكم بمقاليد السلطة في غزة، فإن
حماس قد تكون أول طرف بإمكانه التنفيذ والوقوف خلف التفجير مباشرة. ويمكن الحديث هنا عن جماعات حزبية غير راغبة وراضية بالمصالحة، أو حتى عن قيادة الحركة متمثلة بالسيد يحيى السنوار، التي استنجدت أو أعادت النظام المصري للوساطة في الملف الفلسطيني من أجل تقوية موقفها مقابل الرئيس محمود عباس وإجباره أو الضغط عليه للقبول بمصالحة قائمة على الشراكة الوطنية، وفق التفاهمات ذات الصلة. والحاصل أن الطرف المصري عجز عن الضغط على عباس الذي أدار العملية، كما يريد، وفرض كل شروطه واضعاً قيادة حماس في الزاوية، ومعها الوسيط المصري، مصراً على السيطرة على كامل السلطة ومؤسساتها كي تصبح غزة مثل الخاتم في إصبعه، كما قال حرفياً. ورغم أنه مفتقد للكاريزما والقدرات القيادية اللافتة، إلا أنه ذات تجربة عميقة وهو فهم أن حماس في مأزق وأن النظام المصري لن يستطيع الضغط عليه لصالحها. ومن هنا، فإن لقيادة حماس مصلحة في إيقاف أو إنهاء العملية التي لا تسير لصالحها، والذهاب إلى الخطة "ب" التي ترعاها أو تحبذها أصلاً المخابرات المصرية، والمتعلقة بالتفاهم مع محمد دحلان أو في الحد الأدنى قيام القاهرة بتزويد غزة بما تحتاجه من مواد إغاثية وإنسانية لصالح العسكر وشركاتهم وشركائهم (تماماً كما قال السفير محمد العمادي)، بحجة عدم انهيار الأوضاع أو انفجارها في وجه الاحتلال والإقليم برمته، وربما أيضاً تهيئة لصفقة القرن التي ستلقي بمسؤولية أو أزمات غزة إلى الوصاية المصرية، أمنياً سياسياً واقتصادياً.
غير أن هذا الاحتمال مستبعد؛ لأن حماس حركة منضبطة، تحديداً تحت قيادة يحيى السنوار، ولأن الحمدالله ضيفها وفي ميدانها، ولأن الوسيط المصري حاضر على الأرض، ولأن الاتهامات ستوجه إليها، وستتتحمل المسؤولية فيى كل الأحوال، وسيكون من مصلحتها الكشف عن ملابسات وحيثيات التفجير في أسرع وقت ممكن .
السلطة (أو قيادة رام الله) متهمة طبعاً. ورغم أن عملية المصالحة تسير وفق السيناريو الذي رسمته، إلا أنها لا تأمن مزيدا من الضغوط عليها لتليين قبضتها والتخفيف من حصار غزة الذي تشارك فيه بجدية، وربما اعتقدت أن مؤتمر البيت الأبيض الخاص بغزة سيتخذ خطوات ويحشد قوى إقليمية ودولية لتحسين الأوضاع، وضخ مساعدات بعيداً عنها (السلطة) لتحسين الأوضاع في غزة ومنع انفجارها، في سياق إخراجها من المعادلة وتحجيم قدرتها على مواجهة صفقة (صفعة) القرن، وإلقاء تبعتها ومسؤوليتها إلى الحضن المصري. ولكن إذا ما كانت السلطة هي فعلاً من تقف خلف التفجير، فإن هذا يعني بالضرورة اختراقا كببرا للمنظومة الأمنية الحمساوية بما يتعارض مع الاستخفاف بها وبقدراتها، سواء من حماس أو بقية الفصائل المعارضة.
القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان (أو حفتر الفلسطيني) متهم هو الآخر. وهذا احتمال جدي؛ كون دحلان مغرور ودموي أصلاً، وهو مستفيد من تعثر المصالحة وعدم سيرها في الاتجاه الذي يريده الرئيس عباس بفرض شروطه كاملة على حماس وسيطرته التامة على غزة، وعدم خلق بيئة تسمح بعودة دحلان وتياره إلى المشهد السياسي الفلسطيني. ودحلان مستفيد من موت المصالحة بشكلها الحالي من أجل السعي لحشد مساعدات وتقديم مساعدات لغزة، وإظهار نفسه بمظهر المنقذ، أو للعودة إلى خيار "ب" المخابراتي المصري، خيار التفاهم مع حماس، وترك السلطة الفعلية على الأرض لها، ولو مؤقتاً، مقابل عودة تياره للعمل، وسيطرته وتسلمه شخصياً الملف السياسي المتعلق بغزة. وبالطبع، فلا يمكن تصور خلق الظروف الملائمة لتنفيذ صفقة القرن، وتحييد غزة ومنعها من معارضتها، أو إبقائها تحت الوصاية المصرية دون دور بارز للنسخة الفلسطينية المحدثة من صبري البنا (أبو نضال) وبندقيته المؤجرة.
الجانب المصري قد يكون مستفيدا أيضا من التفجير، رغم أن هذا الاحتمال بعيد ومستبعد أيضا، فهو لعب لعبة المصالحة وفق معادلة رابح رابح، فإما أن تنجح العملية (المصالحة) وتسمح بتهيئة الظروف أمام عودة حليفه دحلان للمشهد من الباب الغزاوي، ولكن دون كسر حماس؛ أقله للقيام بمسؤولياتها الأمنية على الحدود، ومنع تنقل السلاح أو داعش على جانبيها، أو تفشل؛ فلا يجد غضاضة من العودة إلى خياره الأساسي أي تفاهم مع حماس - دحلان، والذي تم الإقلاع عنه من أجل المحاولة التكتيكية مع عباس وفق القاعدة الرابحة السابقة، غير أنه فوجئ بمناورة عباس وتحويله اللعبة لصالحه، وفق نفس المنطق (رابح رابح) المتضمن فرض شروطه، وتسلّم السلطة كافة المسؤولياتـ أو تحييد الوسيط المصرى وتحميل حماس المسؤولية عن تعثر المصالحة، كما عن الوضع المنهار في غزة.
لا يمكن استبعاد الجماعات الداعشية من المسؤولية عن التفجير، وهذا الاحتمال جدي جداً ووارد؛ رغم أنها في حالة من الملاحقة والضعف والتراجع؛ بما لا يمكنها من القيام بعملية كبيرة كهذه. وكبقية الأطراف، فهي أيضاً لا يمكنها التنفيذ دون مساعدة أو حتى غض طرف من جهات؛ ولو بمستويات فردية ومتدنية داخل حماس وأجهزتها الأمنية.
طبعاً، قبل الاحتمالات السابقة وبعدها لا يمكن استبعاد إسرائيل، ولو نظرياً، من الوقوف خلف التفجير الفتنة؛ بغرض بث مزيد من الانقسام، وقتل المصالحة، لتأبيد الانقسام باعتباره مصلحة إسرائيلية استراتيجية. ومع ذلك، فإن هذا الاحتمال مستبعد؛ لأن كل التقديرات الإسرائيلية (كما نشر هنا في موقع "عربي21" المهني والمصداق) ترى أن المصالحة عملية فاشلة وبلا آفاق، وهي أصلاً ميتة.. وكذلك لعدم إغضاب الوسيط المصري الذي تتمتع معه تل أبيب بعلاقات متينة؛ وتفاهم أخذ الطابع الاستراتيجي، ولأن العقلية الإسرائيلية لا تتحمل كلفة شيء يمكن تحقيقه بالمجان دون جهد وتكلفة، ولأن قاعدة أو مقولة شارون العنصرية المتغطرسة كانت وما زالت قاعدة عمل إسرائيلية: "لا تتحقق كل الإنجازات بذكاء اليهود، ولكن بعضها يتحقق بغباء العرب".
في كل الأحوال،
يعبر التفجير بحد ذاته عن اختراق كبير ولافت في المنظومة الأمنية لحماس بغزة، دون تجميل أو تلاعب بالكلمات. ولا يمكن تنفيذ العملية في منطقة أشرف اللواء توفيق أبو نعيم شخصياً على تأمينها، وجال فيها ثلاث مرات في أقل من 24 ساعة، كما قال، دون هذا الاختراق الواسع، الذي لا ينال عموماً من الواقع الأمنى المستقر نسبياً في غزة. ومع ذلك، فإن أهمية دوافع التفجير أو من يقف خلفه؛ تتضاءل، ولا تكاد تذكر أمام تداعياته الساسية؛ كونه أطلق فعلياً رصاصة الرحمة على عملية المصالحة المتعثرة والميتة سريرياً أصلاً. ومن هنا فصاعداً سنكون للأسف أمام خيارات كلها سيئة؛ ستعمق الانقسام وتؤبده، ما يسهل بالضرورة من إمكانية تمرير صفقة القرن، علماً أن الأمل يبقى معقوداً (كما دائماً) على الشعب العملاق الذي كان دوماً أكثر وعياً من قيادته وسابقاً لها.