من ضمن الأزمات الفكرية التي تعاني منها جماعة
الإخوان المسلمين؛ علاقتها بالحكم. فأدبيات الجماعة تجعل من المنافسة السياسية وصولا إلى "الحكومة الصالحة فالخلافة الراشدة فأستاذية العالم"؛ هدفا استراتيجيا يتربى عليه أفرادها ويتشبعون به. لكن في نفس الوقت، هي تعتمد بشكل استراتيجي على "النضال الدستوري القانوني" في الإصلاح السياسي أو الوصول إلى الحكم، وبما أن هذه الدساتير والقوانين وضعت في غالبيتها الساحقة من قبل أنظمة حكم فاشية، هي من وكلاء الاحتلال الغربي سابقا لبلادنا والنظام العالمي حاليا، فلن يؤدي أي نضال دستوري قانوني لفوز الإخوان أو الحركات الإسلامية بالسلطة؛ لأن النظام العالمي بقيادة أمريكا يعتبر مربع "السلطة، السلاح، المال، المعلومات" هي مناطق محرمة لا يمكن الاقتراب منها لأحد غيره. وبالتالي، يستحيل أن يسمح بامتلاك الإخوان أو غيرهم واحدا من هذه الأربعة إلا بالقدر الذي لا يمثل خطرا عليه أو تحت رعايته آو خدمة لمصالحه.
وما حدث في الجزائر في العشرية السوداء ليس منّا ببعيد، وما حدث مع حماس حين نجحت في الوصول إلى الحكم، شاهد على ما نقول.
ثم جاءت ثورات الربيع العربي وتجربة الإخوان في
مصر وتونس والمغرب واليمن؛ لتؤكد أنه لا اقتراب من سقوف السلطة إلا بالقدر الذي يجعلك تابعا، ولا تمثل خطرا محتملا عليهم ولو بعد حين.
حتى التجربة الوحيدة التي خاضها الإخوان في تاريخهم الحديث "بشكل معلن" للجهاد في سبيل الله، كانت في حقيقتها خدمة جليلة للولايات المتحدة والنظام العالمي؛ لإعاقة تقدم السوفييت في أفغانستان، في ما عرف بالحرب الأفغانية، وكان "المجاهدون" يشحنون من مصر إلى افغانستان مباشرة لجهاد السوفييت، برعاية أمريكية كاملة وتسهيلات من النظام المصري.
وبالتالي، نصبح أمام الوضع التالي إما أن تلتزم بالنضال الدستوري القانوني الذي لن يصلك بك إلى شيء حقيقي، اللهم إلا إضفاء المشروعية على الأنظمة الفاشية القائمة كما في غالب دولنا العربية، وإما تكون حركتك خدمة لمصالحها أو في الحدود الآمنة لها، وهو أيضا لن يصل بك إلى هدفك.
وبالتالي، يتربى الفرد داخل الإخوان ويتشبع عاطفيا بأهداف مستحيلة تحقيقها اإذا ظلّت استراتيجيتهم الوحيدة لتحقيقها هي النضال الدستوري القانوني وإرضاء النظام العالمي الذي "لن يرضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
وهنا تصبح ثقافة المحنة لا نهائية، ومؤطرة فكريا ودينيا داخل التنظيم وبلا نهاية؛ لأن الجماعة ستظل مستهدفة من أعدائها حتى لا ترفع رأسها فوق السقف المحدد لها، وفي نفس الوقت هي تلتزم باستراتيجية عمل لن تصل بها نهائيا لأهدافها المعلنة والموثقة في كل أدبياتها. والحل لهذه المعضلة هو ما سنتحدث عنه في المقال القادم بإذن.
ويصبح أمام الجماعة طريقان لحل هذه المعضلة، وكلاهما مرّ وله تبعاته عليها: إمام تتنازل عن أهدافها في "السلطة"، وتصبح استراتيجية النضال الدستوري والقانوني متلائمة مع أهداف دون السلطة، وبالتالي تتوافق الوسائل مع الأهداف.. وإما أن تنتهج استراتيجية أخرى غير النضال الدستوري والقانوني، وتؤدي إلى وصولها الفعلي للسلطة، وبالتالي يبدأ صدامها مع النظام العالمي، كما هو حاصل حاليا في مصر؛ عندما انتهجت استراتيجية "الفعل الثوري" إلى جانب النضال القانوني، فكان الانقلاب العسكري وما تلاه.
لكنّ أكبر معضلة حقيقية قد تدمّر الجماعة ما لم تنتبه لها هي إلى أنها لا يمكنها أن تنتقل من استراتيجية ثورية بطبيعتها صدامية - كإخوان مصر - إلى العودة مرة أخرى إلى النضال الدستوري بسقوفه المنخفضة؛ لأن توحش النظام سيكون أقوى وشعوره بالتهديد المستمر من قبل الجماعة لن ينتهي الا بتصفية وجودها فعليا، وبالتالي تعيش الجماعة محنة مضاعفة؛ حتى تحت سقف أهداف منخفضة وبالعمل وفق قواعد النضال القانوني الذي وضعه النظام!
وبالتالي، لن تكون الأزمة فقط على مستوى الفكر ووحدة التنظيم فحسب، ولكن على كم الضحايا والمآسي الإنسانية المتوقع حدوثها، وهو للأسف الشديد ما يتم حاليا في هدوء ودون إعلان.