حرصت النظم
المصرية لما بعد عام 1952 على تركيز السلطات السياسية بيدها، مقابل توفير سبل المعيشة لعموم المواطنين، من خلال التوسع بدعم المنتجات الغذائية والمنتجات البترولية وغيرها، مما أتاح مبررا (خاصة لبعض الفئات) لتعضيد النظام الحاكم مهما زادت مساوئه.
إلا أن الانقلاب العسكرى بالثالث من تموز/ يوليو 2013، والذي حاول الالتزام بنفس القاعدة، لم ينجح بذلك مع زيادة معدلات الغلاء لمستويات غير مسبوقة، في خط مواز لتأميم الحياة السياسية. وجاءت
شروط صندوق النقد الدولي المصاحبة للموافقة على إقراض مصر،
لتزيد حالة الغلاء والمعاناة اشتعالا.
وفى ضوء تجريم التظاهر وقانون الطوارئ والزج بعشرات الآلاف من المعارضين بالسجون، حاول الجنرال التمويه من خلال ادعائه بصبر المصريين على الغلاء وتحملهم، إلا أن مؤشرات عديدة برهنت على تراجع شعبيته، بفترة اقترب فيها موعد تجديد رئاسته، والتي يريد أن يُظْهر للعالم أن شعبيته ما زالت مرتفعة.
فقام بتأجيل زيادة تم الإعلان عنها بقطارات السكة الحديد، وبأسعار أوتوبيسات النقل العام وبتراخيص السيارات، إلا أنه قد تم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي (حسب تقريره الصادر الشهر الماضي) على زيادة أسعار المنتجات البترولية بالعام الحالي.
وزيادتها مرة أخرى قبل حزيران/ يونيو من العام القادم، حيث لا يقتصر أثر ذلك على أصحاب السيارات المستخدمة للوقود، بل على أسعار السلع التي يتم نقلها، وعلى تكلفة العمليات الصناعية وعلى أسعار المواصلات.
كذلك زيادة أسعار الكهرباء في تموز/ يوليو من العام الحالي وفي نفس الشهر من العام القادم، في زيادات سنوية مستمرة حتى 2021، كما طلب الصندوق امتداد خفض الدعم للسلع الغذائية الموزعة على البطاقات التموينية وتحويله لدعم نقدى.
تجميل البيانات يقلل الثقة
ويظل السؤال الرئيسي: إذا لم يكن المصريون قد تحركوا بعد تأميم الحياة السياسية والزج بالمعارضين بالسجون، فهل يمكن أن تحركهم قسوة الأوضاع المعيشية؟
المؤيدون لذلك يرون أن سعي الحكومة لتضليل الرأي العام، من خلال نشر المؤشرات
الاقتصادية التي تشير لتحسن الأوضاع الاقتصادية، يمكن أن يكون عاملا محركا نتيجة فقد الثقة بتلك المؤشرات، ومنها تحقيق معدل نمو بنسبة 5 في المئة بالعام الماضي رغم الركود، وتراجع معدل البطالة الى 11.3 في المئة بنهاية العام الماضي، والزعم بتراجع
معدل التضخم، حيث لم يشعر الناس بذلك التحسن في ضوء استمرار تصاعد الأسعار؛ حتى حسب الجهات الرسمية التي لا يثقون ببياناتها.
فعندما يذكر جهاز الإحصاء الرسمى أن معدل التضخم في كانون الثاني/ يناير الماضي قد بلغ 17 في المئة، فهو معدل مرتفع، تفوق نسبته زيادات الأجور للعاملين بالحكومة، مع عدم تحسن دخول غير العاملين بالحكومة، وهم الأكثر عددا.
كذلك استمرار ظاهرة ارتفاع الأسعار خاصة الغذاء بعد عام وربع من التعويم، كما أن زيادة الأسعار الرسمية بنسبة 17 في المئة بالشهر الماضي وبنسبة 30 في المئة في كانون الثاني/ يناير بالعام الماضي، تعني زيادة للأسعار بنسبة 47 في المئة في عامين، في حين ستتجه فائدة الودائع للتراجع.
أيضا إخفاق الجيش بمهمة خفض أسعار السلع الأساسية التي كلفه الجنرال بها ببداية تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، فحتى الأسعار المخفضة التي يبيع بها ما زالت أعلى من مستويات دخول البسطاء، كما أن
عملية بيع دواجن اقتربت مدة صلاحيتها بسعر مخفض مؤخرا؛ قد نالت من مصداقيته.
غذاء للفقراء ليومين بالعام
وعندما يعلن الجيش ضمن إنجازاته للعام الماضي توزيع ثمانية ملايين عبوة غذائية بالمجان؛ على الفئات المطحونة بالقرى، فإنه بالنظر لعدد الأسر المصرية البالغ 23.5 مليون أسرة غالبيتها فقيرة، فإن تلك العبوات الغذائية لا تكفي احتياجات تلك الأسر الفقيرة ليومين فقط بالعام.
وسوف يواكب حالة الغلاء التي ستزيد حدتها بالشهور القادمة؛ ضيق المجال أمام الحكومة لتحسين الخدمات الجماهيرية المتعلقة بالصحة والتعليم والطرق ومياه الشرب والصرف الصحي، نتيجة ارتفاع تكلفة الدين والتي تلتهم نسبة 46 في المئة من الإنفاق العام بالموازنة.
وتوجه باقي الإنفاق ما بين أجور الموظفين بالحكومة ودعم السلع التموينية والمشتقات، والذي سيزيد مع اتجاه أسعار البترول عالميا للارتفاع.
لكن وجهة نظر أخرى ترى أن صعوبات المعيشة يمكن أن تكون عاملا مساعدا للفوران الشعبي، ولكن ليس عاملا رئيسيا، خاصة مع كبر حجم الاقتصاد غير الرسمي الذي يتيح فرص عمل إضافية، وتفشي الفساد، مما يتيح لكثير من الموظفين بالحكومة تعويض ضعف مرتباتهم، وانتشار عمليات السمسرة بالعقارات والأراضي وغيرها، مما يحقق دخولا إضافية للكثيرين.
كما أن الطبقات العمالية التي كانت تتزعم الحراك بمدن مثل المحلة الكبرى وكفر الدوار وحلوان، تم إجهاض حركتها باختيار قيادات عمالية موالية والمراقبة الأمنية اللصيقة، وما تم من تعسف مع عمال النقل العام الذين قاموا بإضراب.