ها هو الجنرال الحاكم في
مصر يبدو عاريا من أي لباس يواري سوأته، فهو يظهر على خشبة المسرح الانتخابي وحيدا أمام كومبارس هزيل؛ أتى به من مقلب النفايات السياسية ليمثل الدور أمامه، وليحقق من خلاله الجنرال نسبة الفوز التي لا يقبل بأقل منها، وهي 99.9 في المئة، جريا على عادة أسلافه من الحكام العسكريين، إذ أن انخفاض النسبة عن حاجز التسعينيات يعتبره الجنرال خطرا محدقا عليه.
لا يعرف الجنرال معنى
الانتخابات أصلا، ولم يتعامل معها في حياته المهنية. فكل ترقياته ومواقعه الوظيفية التي وصل إليها من قبل كانت تتم بشكل روتيني، ودفعته كراهيته للممارسة الديمقراطية والانتخابات للانقلاب على الرئيس الذي جاءت به الانتخابات الحقيقية الوحيدة في 2012. وبهذا الانقلاب طوى
السيسي صفحة الانتخابات الحرة في مصر، وعاد مجددا إلى صفحة المسرحيات الهزلية، وكانت أول مسرحية له في 2014، حيث أتى بالكومبارس الذي يمثل الدور أمامه لتخرج النتيجة بفوزه أي السيسي بنسبة 97 في المئة، بينما حصل منافسه (الكومبارس) على المركز الثالث بعد الأصوات الباطلة؛ محققا حوالي 740 ألف صوت فقط، وهو الذي حصل في أول انتخابات ديمقرطية عقب ثورة يناير؛ على 4.8 مليون صوت. ولم تفلح هزلية 2014 الرئاسية في منح أي شرعية حقيقية للسيسي بعد أن شاهد المصريون اللجان خاوية من الناخبين وهو ما استدعى استنفارا إعلاميا لحشد الناخبين في اليوم الثاني، وتدخل اللجنة الانتخابية لمد التصويت ليوم ثالث لستر عورة الجنرال ببعض الأصوات (المحمولة والمشحونة بالأمر المباشر)، ولم يفلح كل ذلك في إقناع العالم بوجود انتخابات حقيقية في مصر، وهذا ما سيتكرر بطريقة أكثر سفورا في الهزلية الجارية حاليا، والتي سبقها العديد من السياسات واإلإجراءات والقرارات التي كرست صفة "الهزلية" لها. وإذا كانت هزلية 2014 جرت في ظل وجود دعم شعبي للسيسي من عدة فئات وقطاعات مصرية (حتى إذا لم يترجم ذلك بشكل مباشر في صناديق الاقتراع التي لم يشارك فيها فعلا أكثر من 10 في المئة من الناخبين، خلافا لانتخابات 2012 التي شارك فيها 52 في المئة من الناخبين)، إلا أن مسرحية 2018 تجري في ظل انفضاض تلك القطاعات عن السيسي، بعد ما عانته من سياساته التي قصمت ظهورها، وهو الذي كان يعدها ويمنيها بتحسين أوضاعها، وبتحويل مصر لتصبح "قد الدنيا"، فإذ بها تصبح في ذيل الدنيا، وراجعوا إن شئتم المؤشرات العالمية في التعليم والصحة والخدمات عموما، وهو ما لم يستطع السيسي نفسه إنكاره.
من المتوقع أن يفعل السيسي كل ما من شأنه أن يبقيه على رأس السلطة، حتى ولو اقتضى ذللك التخلص من نصف الشعب المصري، وقد جرب القتل الواسع، والاعتقال والتعذيب، والتصفية الجسدية في الشوارع والميادين، وليس لديه مانع من فعل المزيد. ولا ينبغي أن يكون ذلك مدعاة للخوف والتراجع أمامه، فهذا لن يوقفه عن المزيد من الإجرام بحق الشعب، بل الواجب يحتم على الجميع التصدي لهذا الثور الهائج الذي يهدد الجميع، بمن في ذلك من ناصروه من قبل، وكانوا له سندا، سواء عند انقلابه على السلطة المدنية المنتخبة، أو في مسرحية تنصيبه حاكما في انتخابات 2014. لقد تعامل السيسي مع مناهضيه ومعارضيه منذ البداية بالمبدأ الاستعماري "فرق تسد"، فقسم الشعب المصري إلى شعبين "انتو شعب وإحنا شعب"، وظل يخاطب شعبه بتعبير "انتو يا مصريين"، باعتبار غيرهم ليسو مصريين. ثم ركز قمعه في عامي حكمه الأولين على الإخوان المسلمين وبقية القوى الإسلامية الرافضة له، تاركا بعض الهوامش المحدودة لغيرها من القوى التي رضيت بتلك الهوامش المحدودة، وهي التي تبطرت من قبل على الحرية اللامحدودة التي وفرها الحكم المدني بعد ثورة يناير، لكن السيسي لم يقبل باستمرار هذه الهوامش المحدودة أيضا، فهو لا يستطيع أن يعيش في هكذا أجواء، وهو الذي لا يعرف غير السمع والطاعة، وتنفيذ الأوامر دون اعتراض. ومن هنا بدأ في سحب هذه الهوامش المحدودة، واتجه بقمعه نحو تلك القوى الليبرالية واليسارية، مع استمرار وتصاعد ضغوطه بحق عموم الشعب في رفع الأسعار وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية، دون السماح بأي مظهر للتعبير عن الغضب. وصاحب كل ذلك استمرار التواطؤ مع العدو الصهيوني لتنفيذ صفقة القرن، وتهجير أهل سيناء استعدادا لذلك، ووصل الأمر إلى استدعائه طائرات إسرائيلية بدون طيار لتساعده في مواجهة الإرهاب في سيناء، وقد كشفت صحيفة نيويورك تاميز مؤخرا قيام الطائرات الإسرائيلية بأكثر من مئة هجمة على مواقع في سيناء بالاتفاق مع النظام المصري، وهو ما لم يصدر نفي رسمي له حتى لحظة كتابة هذا المقال. وسبق ذلك بطبيعة الحال التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير رغم الحكم القضائي النهائي بمصريتهما، والتنازل عن حق مصر التاريخي في مياه النيل، وغاز البحر المتوسط.. الخ.
اتساع دائرة قمع السيسي لتشمل معارضيه الذين قبلوا من قبل بانقلابه وبخارطة طريقه، دفعت تلك القوى للانتباه لجرائم السيسي التي ربما لم يكونوا يرونها أو كانوا يتغافلون عنها من قبل. وبدأت أصوات تلك المعارضة تتصاعد تدريجيا، وشهد العام المنصرم بداية محاولات لتوحيد صفوف تلك المعارضة للحفاظ على الحد الأدنى من شروط الحياة، لكن تلك المحاولات ظلت باهتة، وظلت منطلقة من روح إقصائية تستبعد بعض قوى وشرائح المعارضة. وحين نجحت تلك الجهود في تأسيس الحركة المدنية الديمقراطية، فإنها ظلت تقصر عضويتها على بعض الأحزاب والحركات دون البعض الآخر من داخل المعسكر ذاته، ناهيك عن أنها ظلت تتعامل بعداء غير مبرر مع القوى المناهضة للسيسي منذ البداية، وفي القلب منها جماعة الإخوان. وفي المقابل، ظهرت أصوات ليبرالية ويسارية أكثر وعيا، وأكثر حرصا على العمل المشترك مع القوى الإسلامية للخلاص من السيسي، وإنقاذ مصر من مزيد من الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وللحق، فإن هناك أصواتا حتى داخل الحركة المدنية نفسها لديها هذه الرغبة، لكنها تواجه أغلبية رافضة ذات أصوات أعلى.
مرة أخرى، ها هو السيسي يقدم لمناهضيه ومعارضيه فرصة جديدة للتوحد ضده، بعد أن أغلق كل مجالات التغيير السلمي، وأعلن أن من يريد أي تغيير في مصر فعليه أن يتخلص منه هو شخصيا أولا. وحسنا فعلت كل قوى المعارضة بالاتفاق على مقاطعة هزلية الانتخابات الرئاسية، والتي تحتاج إلى تحركات حقيقية لتفعيل هذه المقاطعة وحشد الشعب خلف هذا الهدف، وعليها أن تغتنم هذه الحالة من التوحد على عمل مشترك (المقاطعة)، للانطلاق نحو مزيد من الأعمال المشتركة التي تصب جميعا في هدف رئيسي، وهو الخلاص من الحكم العسكري وإنقاذ البلاد والعباد منه، وهو واجب الوقت.