قال
النقيب المتحاذق في التسريب المشهور: "مش هتفرق
القدس عن رام الله"..
وللسامع أن يقول ما يشاء في وصف ما تنطوي عليه العبارة من إفراط في التفريط، ومجاوزة الحد في الخيانة إلى ما بعد ما بعد الخيانة. لكن لا يسعنا جميعا إلا أن نسجل دهشة حانقة من قدرة الدولة العربية بعامة، والمصرية بخاصة، على تكثيف كل هذا الكم من التسطيح والابتذال، والضعة والانحطاط، وحمله برشاقة بالغة، على جناح اللغة السوقية الواطئة، على الرغم من ثقل المعصية، وثقل ظل أصحابها.
وإن كنت تعتقد أنك قد صُدمت بما يكفي من الأخبار الناشزة لهذا الأسبوع، فانتظر حتى تسمع عن حادثة الغش الحيواني الأبرز - برأيي المتواضع - منذ قصة داحس والغبراء. فقد استبعد اثنا عشر جملا من مسابقة جَمال الجِمال في بلد عربي، بسبب أنها حقنت بـ"البوتوكس" لتغدو أجمل؛ إذ انتفخت شفاهها وأنوفها! وهذا الخبر سيكون على علاته طريفا ومسليا، لو أنه وقع بين ظهراني أمة حققت نهضتها وهزمت أعداءها، وحملت قصب السبق في شتى مجالات التنافس بين الأمم، أو بارزتها بندية على أقل تقدير. لكن بالنسبة لأمة مستباحة مثل أمتنا، فمن حق المرء أن ينخلع فؤاده فرقا وجزعا وهو يفكر: أي انحطاط خلقي ومجتمعي مركب، وأي فشل وظلمات بعضها فوق بعض يمكن أن تفضي بالناس إلى هذه الحال؟ كيف حدث وصار للجِمال مسابقة للجَمال؟ وكيف نقبل أن يتعثر حال "الأونروا" وتخفض رواتب آلاف العاملين فيها - ومخصصات اللاجئين المستفيدين - لأن "ترامب" قرر حبس 60 مليون دولار عنها، هي تقريبا قيمة جوائز مسابقة ملك جمال البعران؟ وكيف بلغ انحطاط الهمة بالناس أن يقبلوا في سبيل السعي للفوز بالمسابقة أن يكذبوا ويغشوا، ويكون الغش بالإضرار بجمال بريئة مسكينة، مغلوبة على أمرها؟ هنيئا للشيطان بنصيبه المفروض منا؛ ولا شك أنه يفحص الأرض بقدميه ضحكا من المفارقة الفاقعة، حين يحدث هذا السفه فوق الأرض التي انتجت حمولة كوكب من "الفلاش ميموري" نهيا وزجرا عن إسبال الإزار، خشية الكبر والخيلاء.
وهل هناك فوائض في النقد والثروة والمال عندنا، تبرر فرض ضريبة "انعدام رشد" يتم بموجبها انتزاع شيء من المال، وتحويله لمشروع ثروة مليونية لطامح طامع بالثراء؟ بالنظر لأعداد اللاجئين والجوعى والمشردين في بلادنا بين "عفرين" و"الحديدة"، ومن الموصل إلى كل قارب قديم متهالك يحمل اللاجئين من شواطئ جنوب وشرق المتوسط إلى أعماقه - بالنظر إلى هؤلاء المنكوبين - فإن من المستبعد وجود هذه الفوائض المتوهمة.
وأرجو هنا ألا يفهم الهجوم على وجه من أوجه السفه في قُطر عربي ما، أنه غض للطرف عن سفه مماثل في غير قُطر آخر، فكلنا في الهم شرق. بل يمكن القول إن باستطاعة ثري
فلسطيني واحد أن "يعطس" الملايين الستين المذكورة، وينقذ زورق اللاجئين المتهالك، دون أن يرف له جفن، لكن هذا - على الأغلب - لن يحدث. من المهم جدا تذكر ذلك، لئلا يُظَنَّ أن المقصود هنا العيب فقط على فئة بعينها من العرب المولعين بالجمال، ففي كل المشرقيين جميعا من شمالهم إلى جنوبهم، ببدوهم وحضرهم، من هو مشروع منفق حالم بالسرف الباذخ، ولا يحول بينه وبين تطبيق تلك الرؤية إلا رقة الحال، وضيق ذات اليد، أو تقاصرها عن التبذير الفائق، على سفاسف الأمور.
ولا يئن أصحاب الحاجات في بلادنا من نقص المال، فهو كثير؛ بل الهندسة الاجتماعية التي دمرت المجتمع ومنظومته الأخلاقية هي التي صرفت الأموال عن أوجب الواجبات، وبذلتها في المحرمات أو فيما لا ينفع. لقد انقلب هرم الأولويات على نحو مريع، فغدا التافه مهما والمهم تافها، والغالي رخيصا والرخيص غاليا. ودولة المخابرات العربية (في عصر الثورات المضادة ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن "المخابرات" هي المادة الحيوية الفعالة في كل نظام عربي) رعت بكل أذرعها السياسية والثقافية والإعلامية، وحتى الدينية، عملية قلب المطبوع، وإعادة تعريف المفاهيم، وفقط في ظل انقلاب كهذا يمكن القول إن "رام الله مش هتفرق عن القدس".
فكيف يمكن الشرح للرازحين تحت طبقات من العطب الأخلاقي والعطن النفسي والخراب الوجداني؟ كيف يمكن الشرح للمخبرين عن الكرامة؟ هناك احتمال راجح أن المعنيين لا ينطقون إلا وهم تحت تأثير المواد المخدرة. ليس عندي طبعا دليل على ذلك يصلح للأخذ للقضاء، لكن القرائن عديدة (حديث أحد كبرائهم المازح في تسريب آخر عن تناول "الحبوب المهدئة"، واستمرار رمي القوم لخصومهم بتداول هذه الحبوب على مذهب "كل يرى الناس بعين طبعه"). ولا شك أن بين تجار الأوطان والمنطق السليم فراقا بيّنا وطلاقا بائنا، وإلا يمكن الرد استنكاريا على النقيب المذكور ومشغليه: ولماذا "تل أبيب مش هتفرق عن القدس" لا تجد صدى عند العدو يا ترى؟ (ودون التسليم للعدو الغاصب بشبر من أرض فلسطين)؟
لكل ما تقدم، أجد نفسي مضطرا إلى أن أنبه السادة المخابرات إلى فحش خطئهم في حق القدس بذات لسان السمسرة والبيوع الذي يتقنون.. وعليه إليكم هذا الإعلان عن هذا العقار الخطير: نعلن اليوم عن 144 دونما متاحة للحب والتضحية في نقطة جذب سياحي تجاري مميز، في موقع جبلي خلاب، بين البحر والنهر، وبين الأرض والسماء، ويحيط بها سور من الحجر القديم المتين عالي الجودة. العقار مسقوف بقباب ذهبية وفضية، مع "تراسات" فسيحة وواسعة مناسبة للأنشطة في الهواء الطلق. يتسع العقار لنحو نصف مليون شخص، ويصلح لتنظيم مختلف المناسبات الاجتماعية والثقافية. ارفع خسيستك وأعل من قيمتك بالاستثمار في هذا المكان الذي سبق لأفضل الناس، وأحسن الناس، وأهم الناس؛ أن سكنوا فيه أو مروا منه في الطريق إلى سدرة المنتهى. أحد الأتقياء الكبار في السن دعا الله هنا ورزقه مولودا رغم عقم زوجته، وإحدى السيدات الفاضلات اللاتي تطوعن للعمل في المكان كان الرزق يأتيها من عند الله. وللمكان شهادة بالبركة موقعة ممن ليس كمثله في جلاله وكماله شيء. البيع لأعلى سعر، غير أن النقد المطلوب هو امتلاك الكرامة وحب الحرية، والرغبة في الانتصار للمظلومين والمستضعفين، وكراهية الذل، والتمسك العملي بالمصطلحات التي يراد منا أن ننساها مثل "فلسطين عربية من البحر إلى النهر" و"ثورة ثورة حتى النصر" و"إنه لجهاد نصر أو استشهاد"، حتى عودة "كامل التراب الفلسطيني". لا تقبل العروض من سراق المال العام، وقاهري الشعوب وجلاوزتهم وأعوانهم ومموليهم ومستشاريهم؛ سواء في ذلك العجوز الذي شاخ في الخيانة، والأغيلمات الحالمة بأدوار ومشاريع على أنقاض القدس وحطام فلسطين.
هذه هي البضاعة، فأنى لمخبر، أو لرئيسه، أن يسومها بحقها!