لم تكن البنايات والمنشآت والمحلات هي المقصودة بالحريق الكبير الذي اشتعل في القاهرة عند الثانية عشرة ظهرا، من يوم 26 السبت كانون الثاني/ يناير 1951، بل كان المقصود "حرق ثورة" كانت ستكون من أكبر ثورات التاريخ إذا ما كانت واكتملت. ففي الثانية من صباح هذا اليوم، كانت أحداث الإسماعيلية والمجزرة التي فعلها الإنجليز بالمدينة في اليوم السابق (الجمعة 25 كانون الثاني/ يناير) قد بدأت تتسامع في القاهرة محدثة غضبا شديدا، وكان عمال الطيران في مطار ألماظة هم الطليعة الأولى لهذا الغضب، وإن شئت قل للثورة، فرفضوا تقديم الخدمات لطائرات تابعة للخطوط الجوية البريطانية، ثم تبعهتم بعدها بلوكات النظام (البوليس) في ثكنات العباسية.
وما إن بدأت القاهرة في الاستيقاظ صبيحة هذا اليوم، إلا وكان الغضب العارم قد عم المدينة كلها، بل وفي
مصر كلها، وكانت المظاهرات في القاهرة بالطبع أكثرهـا حدة. ويقال إن مليون متظاهر خرجوا في هذا اليوم. كانت ثورة شعبية حقيقية توافرت لها كل أسباب الاشتعال، فخرج طلاب الجامعة إلى ميدان الأوبرا، وانضم إليهم طلبة الأزهر، وأخذت الجماهير تزداد وتزداد مع توافر ظرف خطير في الحالة كلها. فقد اشترك معهم في المظاهرات عناصر الشرطة وكلهم غضب لما حدث لزملائهم في اليوم السابق. وإذ يرى الناس العاديون هذا المشهد العظيم أمام أعينهم، فما يكون بوسعهم إلا أن يكونوا جزءا منه، فتزايدت الحشود تزايدا مرعبا، وأغلق أصحاب الأنشطة محلاتهم وانضموا للمتظاهرين، واتجهت الجموع إلي مجلس الوزراء؛ مطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وإعلان الحرب عليها، فأجابهم عبد الفتاح باشا حسن، وزير الشؤون الاجتماعية بأن الوفد يرغب في ذلك بالفعل، ولكن الملك هو الذي يرفض، فما كان من هذه الحشود إلا توجيه مسارها فورا إلى قصر عابدين. وإذ تبين أن ثورة كبرى على وشك الاشتعال، وتحمل بداخلها كل أسباب ومقدمات ونتائج نجاحها وتحولها إلى ثورة شعبية حقيقية، فما يكون من التاريخ المخفي إلا أن يحكى لنا أنه، وفي الثانية عشر ظهرا من نفس اليوم، كانت النيران قد بدأت في الاشتعال في نحو 300 محل من أكبر المحلات التجارية، و30 مكتبا لشركات كبرى، و117 مكتب أعمال وشقة سكنية، و13 فندقا كبيرا، و40 دار سينما، و73 مقهى ومطعما.
كل المصادر وشهود العيان وقتها أكدوا أن الحادث لا يمكن ألا أن يكون مدبرا، وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة؛ لا يمكن أن يتوفر إلا لرجال محترفين مجهزين لعمليات خاصة فقد كانوا على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق وكانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة والمهارة في تنفيذ مهمتهم وقد استخدموا نحو 30 سيارة لتنفيذ عملياتهم في وقت قياسي. في نهاية اليوم قدمت حكومة النحاس باشا استقالتها وأٌعلنت الأحكام العرفية ونزل الجيش إلى الشارع. وأجهضت
الثورة في ساعاتها الأولى، ثورة كان من أندر وأعظم المشاهد في تاريخ المصريين منذ ثورة 1919، إن لم تكن أعظم منها، سواء من حيث الوعي الشعبي العام، أو من حيث أسباب تفجرها واشتعالها. وستقف مندهشا كثيرا ومتهما كثيرا ومحبطا قليلا، سواء من إغفال الحديث عنها ودراستها وفهمها، أو ضعها في سياقها التاريخي كسبب مباشر وأصيل للحدث الذي جاء ليطويها وينهيها (حريق القاهرة)، ثم - وهذا هو الأهم - ليهيل عليها ألف صفحة وصفحة من النسيان. وما كان للقاهرة أن تحترق حريقها المشهور لولا حدوث هذه الثورة بعفويتها وقوتها وانطلاقتها الهادرة، ليضع نهاية لكل هذا وفورا.
من الذي تحققت له الفوائد من هذه النهاية؟ سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، سيأتي الإنجليز على رأس أصحاب الفوائد المباشرين. فهكذا ثورة في قلب الشرق الأوسط (مصر) كانت ستملأ الشرق كله. والمهم يا إخوتي أن هذه الثورة كان سيكون لها قادتها العظام، سواء من الإخوان المسلمين الذين كانوا في أوج قوتهم بعد انتهاء أزمة 1948، أو من حزب الوفد الذي كان أيضا في أوج قوته بعد إلغاء معاهدة 1936. سيكون علينا أن ننظر إلى التنظيمات السرية داخل الجيش بقليل من الشك، فتلك التنظيمات، وعلى رأسها تنظيم الضباط الأحرار، كانت ستفنى وتتلاشى في حال ما إذا قد نجحت تلك الثورة في طرد الإنجليز وإقصاء الملك. وقد كانت مقدماتها - بلا مبالغة - تشير إلى إمكانية حدوث كل ذلك. إن يكن من أمر، سيتأكد لنا كل يوم أن مسألة الحكم والقوة والسلطة في مصر أمر بالغ الخطورة في ذاته، وبالغ التأثير في محيطه.
لكننا لا يمكن أن نمر على هذه الأحداث دون الوقوف على ملحمة الشرف والقوة التي حدثت في الإسماعيلية. ففي يوم 24 كانون الثاني/ يناير 1952، نسف الفدائيون قطارا إنجليزيا كان يحمل بعض الجنود والضباط الإنجليز، وبعض العتاد والمؤن من الشرقية إلى الإسماعيلية. فهاج هياج القيادة البريطانية بالقنال، فقررت في اليوم التالي (الجمعة 25 كانون الثاني/ يناير 1952) احتلال محافظة الإسماعيلية. استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة؛ ضابط الاتصال المصري (البكباشى شريف العبد)، وسلمه إنذارا بأن تسلم قوات البوليس المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وتجلو عن دار المحافظة والثكنات، وترحل عن منطقة القناة كلها. رفضت المحافظة الإنذار، وأبلغته إلى وزير الداخلية سراج الدين باشا؛ الذي أقر موقفها، وطلب منها الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام. سراج الدين باشا كان سياسيا من أعلى رأسه حتى أطراف أظافره، وإذ رأى أن المحافظة سبقته باتخاذ قرار رفض الإنذار، فلم يكن أمامه إلا أن يوافقها على قرارها، بل ويطلب منها الصمود.
المهم حاصرت الدبابات والمصفحات البريطانية مبنى المحافظة بسبعة آلاف جندي، فيما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين حوالي خمسمائة. واستخدم البريطانيون كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبنى المحافظة، واستمر الجنود المصريون يقاومون ساعتين من القتال، وسقط منهم خمسون شهيدا، وأسر من بقي منهم. وفي النهاية، أحنى قائد القوة البريطانية رأسه احتراما لهم، وقال لضابط الاتصال بأن رجال القوة المصرية جميعا قد دافعوا بشرف، فحق علينا احترامهم جميعا ضباطا وجنودا.