هناك طريقتان لتفكيك الأنظمة الأيديولوجية الشمولية الحديثة، سواء كانت أنظمة مؤسسية أو أنظمة تدور في فلك فردٍ واحدٍ، وهما: الطريقة السوفييتية، والطريقة الصينية. وقد شَهِدنا تطبيقاتهما في الثلث الأخير من القرن العشرين.
في الطريقة السوفييتية يسير النظام في طريق التقوض بسبب الكم الهائل من المتناقِضات التي يحملها، إذ تصير كل محاولات إصلاح النظام من الداخل مجرد إعادة هيكلة ظاهريّة للبنى والمؤسسات، بغير تغيير لأنماط العلاقات وطبيعة علاقة السلطة بالمجالين العام والخاص.
وفي الطريقة الصينيّة، يشرع النظام تدريجيّا بتفكيك أيديولوجيته من الداخل، وتغيير بنية العلاقات بين مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، وذلك بدون تغييرٍ جذري في بنية المؤسسات أو حتى في مسمياتها؛ لتنسحب الدولة من أكثر المجالات التي كانت تشغلها، وإن ظلّت تُشرِفُ على إعادة ملئها بفاعلين اجتماعيين تختارهم أو على الأقل تُشارِك في اختيارهم.
في النمط السوفييتي، تُحطم الدولة (أو حزبها!) مؤسساتها بدعوى الإصلاح، لكنها تحاول مع ذلك الاحتفاظ بأيديولوجيتها، وهو ما تفشل فيه قطعا بسبب تقوض المؤسسات التي تحمل تلك الأيديولوجيا وتجسدها. وإن ظلَّ النظام يحتفِظُ بالقبضة الأمنيَّة ومؤسساتها، التي يتقلّص نفوذها بانكماش ظل مؤسسات الدولة، وإن بقيت ثقيلة الوطأة كثيفة الحضور رغم الهزال. أما في النمط الصيني، فتحتفِظُ الدولة بكافة البنى المؤسسيّة، إدراكا منها لكون القسم الأكبر من سُلطتها قد استقر وكمُن في تلك المؤسسات بمرور الوقت. لكنها تفرغ أيديولوجيتها من محتواها تدريجيّا، حتى تصير ديباجات جوفاء للاستهلاك الإعلامي؛ كما تنزع وظائف المؤسسات وتكلها للمجتمع تدريجيّا. وهي بذلك تُطيل عُمرها، وتزيد مرونتها وبراغماتيتها وقابليتها للتمدُّد والانكماش بغير صدمات قاتلة.
بينما تَحُثُّ إيران الخطى بشكل سريع، ومنذ فترة طويلة؛ على الدرب الصيني، فإن السعودية، تبدو كأنها تترنّح على شفا الجرف السوفييتي
وإذا كانت الدولة في النمط السوفييتي تصِرُّ على الاضطلاع بكافة "وظائفها" الثقيلة، رغم عجزها المتنامي عن ذلك؛ لتنهار تماما بسبب الاستنزاف الذي لا تستطيع تحمُل تبعته. إلا أن الدولة في النمط الصيني تتخلى عن وظائفها تدريجيّا لفاعلين اجتماعيين آخرين، مع احتفاظها بهياكل مؤسساتها التي تخفَّفت من قسط من الأعباء التنفيذية، لصالح تكثيف دورها الرقابي والأمني.
وبينما تَحُثُّ
إيران الخطى بشكل سريع، ومنذ فترة طويلة؛ على الدرب الصيني، مثلها في ذلك مثل النظام الناصري الذي فككه السادات من الداخل، فإن
السعودية، التي أسكرها ارتماؤها في أحضان أمريكا طويلا؛ تبدو - منذ عهد عبد الله بن عبد العزيز - كأنها تترنّح على شفا الجرف السوفييتي. وفي الوقت الذي تمدّد فيه الدعم الأيديولوجي الإيراني، طوال العقدين الماضيين، حتى بلغ المتشيّعين الجُدد في أفريقيا، كان الدعم الأيديولوجي السعودي ينسحِبُ رويدا رويدا من الجيوب السلفية خارج شبه الجزيرة العربية.
وقد كان بعض من يتسمون بالإصلاحيين في إيران - وعلى رأسهم محمد خاتمي - من الغفلة بمكان للدعوة لتفكيك حرس الثورة، وهو ما كان يعني انتقال إيران على الفور إلى النمط السوفييتي، وتحطُّم نظامها بلا هوادة كما حدث للعثمانيين بتفكُّك الانكشاريَّة على يد السلطان محمود. ولئن وئدت دعوة خاتمي وصحبه في إيران، فإن السعوديَّة قد سلكت على يد ولي عهدها المنكود سبيل تحطيم مؤسساتها بتحطيم أواصر العائلة الملكيَّة وروابطها. ذلك أن العشيرة في النظام الملكي السعودي تلعب دور المؤسسات في النظام الجمهوري الإيراني. وبدون دعم العشيرة ومؤازرتها، والتفافها حول مُمثلها وممثل مصالحها؛ فإن النظام يسير في طريقه للانهيار عاجلا غير آجل. وهو ما أدركه ملك الأردن حين أحال بعض أشقائه وأبناء عمومته من الضباط إلى الاستيداع مؤخرا، ودافع ديوانه عنهم علنا ضد "تُهمة" تورطهم مع السعوديين في انقلاب ضده، ولم يتخذ ضدهم أيّة إجراءات عنيفة قد تؤدي لانفراط عقد العشيرة.
خريطة التوازُنات الإقليمية يُعاد تشكيلها من جديد من خلال ما يجري في الداخل السعودي والإيراني، وطريقة كل منهما في تفكيك صلابة نظامه؛ الأمر الذي ينعكِس بالضرورة على سياساتهما الخارجية
إن خريطة التوازُنات الإقليمية يُعاد تشكيلها من جديد من خلال ما يجري في الداخل السعودي والإيراني، وطريقة كل منهما في تفكيك صلابة نظامه؛ الأمر الذي ينعكِس بالضرورة على سياساتهما الخارجية. ومن المؤكد أن ما تربحه إيران بالتمدُّد هو خصم مباشر من الرصيد السعودي المنكمِش. وإذا كان من الصعب، بل من المستحيل؛ أن يحِلّ بلدٌ آخر محل السعودية بالكامل، سوى مصر، لأسباب تاريخية ومذهبية؛ فإن الحال المزرية التي بلغتها الأخيرة تعني أن النفوذ الإقليمي سيتم تقاسُمه بين الأتراك والإيرانيين إلى أجل غير مُسمى.
ورغم التظاهُرات التي شهدتها إيران طوال ما يزيد على الأسبوع، إلا أن مرونة النظام وبراغماتيته ما زالتا تُثبتان مقدرته مع الاحتمال والتعافي، في حين يبدو أننا سنودِّع قريبا النظام السعودي، الذي ظن الجيل الجديد بنفسه قدرة على تجديد شبابه، فساقتهم رعونتهم وعنجهيتهم وقلة خبرتهم لحروب داخليَّة وخارجيَّة لا يُمكن أن يكون انتصارهم فيها إلا محض هزيمة في معارك أكبر وأكثر مصيريَّة.