لا يخفى على أي متابع للشأن التونسي؛ وجود جملة من الفاعلين الإقليميين والدوليين المتصارعين على إعادة هندسة البلاد - أو منع تلك الهندسة الجديدة - في مختلف القطاعات، سواء أكانت تلك الهندسة تتم من منظور ثوري أم إصلاحي. وبصرف النظر عن حالة الهشاشة التي اتسم بها الوضع التونسي بعد ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 على نظام المخلوع بن علي، فإن بلادنا لم تكن يوما في معزل عن التأثيرات الخارجية التي تبلغ حدّ الإملاءات. فبعيدا عن مزادات المعارضة وادعاءات السلطة، لم يكن مسموحا لتونس، مثلها في ذلك كمثل كل البلدان الفاقدة لمقوّمات السيادة والمحكومة بأنظمة استبدادية لا وطنية، إلا بـ"إدارة التخلف والتبعية"، والعمل على شرعنة الوضع المأزوم أمام الرأي العام الداخلي باعتباره أفضل ما هو ممكن. ولأسباب معقدة ليس هذا موضع تفصيلها، لم يتغير الوضع كثيرا بعد الثورة، فقد وجد التونسيون أنفسهم أمام ديمقراطية "صورية" تشتغل بمنطق المنظومة القديمة نفسها، بل بأغلب رأسمالها الزبوني والجهوي.
ما ميز الثورة التونسية منذ أيامها الأولى؛ هو انبثاق محورين كبيرين اصطف كل محور منهما وراء جملة من الفاعلين المحليين في سائر المجالات
ولعلّ ما ميز الثورة التونسية منذ أيامها الأولى؛ هو انبثاق محورين كبيرين اصطف كل محور منهما وراء جملة من الفاعلين المحليين في سائر المجالات. ولمّا كانت النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل الثورة قد نجحت في جعل الاصطفاف ثقافويا هوويا بالأساس، بحكم ارتداد اليسار الثقافي عن المحدد الاقتصادي للصراع وقيامه بدور "الطابور الخامس" للمنظومة البرجوازية التابعة، وبحكم انخراط النهضة في طرح اقتصادي ليبرالي لا يختلف عن أطروحات التجمعيين؛ إلا ببعض الإضافات التي لا تُغير شيئا في منوال التنمية ولا في علاقات التبعية للخارج. فقد تضخم الصراع الأيديولوجي بصورة كارثية؛ كان المستفيد الأكبر منها هم ورثة التجمع المنحلّ و"صنّاع صانع التغيير" بمختلف منحدراتهم الأيديولوجية"الحداثوية". فقد نجح هؤلاء في تصدّر المشهد السياسي؛ باعتبارهم قاطرة المعارضة زمن الترويكا، ثم قاطرة السلطة بعد انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية، باستثمارها لجملة من المخاوف/ الضغائن المتبادلة بين العلمانيين والإسلاميين.. نجحت النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل الثورة في حرف الصراع المواطني- الاجتماعي عن مداراته الطبيعية. فأصبح الصراع يدار بمفردات أيديولوجية تجد رحمها التوليدي في نظام التسمية التجمعي- الأمني الذي هيمن على تونس قبل الثورة، وهو ما مكّن التجمعيين الذين قامت عليهم الثورة؛ من أن يصبحوا حَكما بين المتصارعين، بل مرجعا للمعنى السياسي باعتبارهم سدنة "النمط المجتمعي التونسي"، وحماته ضد التهديدات "الظلامية" و"الرجعية" الآتية من جهة الإسلاميين، خاصةً من جهة حركة النهضة. وقد يكون "تخصيص" حركة النهضة أساسا بعداوة النخب الحداثية مدخلا مفيدا لفهم الاصطفافات/ الرهانات الحقيقية والعميقة (لا السطحية)؛ التي تحكم المجتمع التونسي وتخترق خطابات نخبه يمينا ويسارا ووسطا (ليس له من الوسطية إلا الادعاء الذاتي).
تضخم الصراع الأيديولوجي بصورة كارثية؛ كان المستفيد الأكبر منها هم ورثة التجمع المنحلّ و"صنّاع صانع التغيير" بمختلف منحدراتهم الأيديولوجية "الحداثوية"
كنّا في مقالنا السابق (لماذا يكره "الحداثيون"
التونسيون تركيا وقطر) قد بيّنا أنّ ما يُسمّى بالقوى الحداثية في تونس قد اتخذت موقفا عدائيا من تلكما الدولتين؛ لأسباب يمكن ردّها أساسا إلى الموقف من الإسلام السياسي ذي الجذور الإخوانية، أي إلى الموقف التركي والقطري "الإيجابي" من حركة
النهضة ومن المخرجات الانتخابية للثورة التونسية في مرحلتها التأسيسية. وعلى الضد من هذا الموقف الإيجابي الداعم للثورة التونسية ولمجمل الثورات العربية، تشكّل محور إماراتي- سعودي لم يخف يوما معاداته لتلك الثورات، بحيث لم يتردد علانية وسرّا في دعم كل القوى التي يمكننا نسبتها إلى ما سُمّي "بالثورات المضادة". ومن باب مكر التاريخ، أو "كشف الغطاء" عن الهوة السحيقة بين الدعوى والواقع، تحالفت القوى "الحداثية" الرافضة للاعتراف بالانكسار البنيوي الذي أدخلته
الثورة التونسية على الحقل السياسي؛ مع هاتين الدولتين اللتين تجمع كل الأدبيات "الحداثية" على اعتبارهما جزءا من القوى "الرجعية".
أمام هذا الوضع السريالي (من منظور أيديولوجي"معياري" ومن منظور استحقاقات الثورة، بل حتى من منظور "إصلاحي" وطني)، نستطيع في خاتمة هذا الجزء الأول من المقال أن نطرح جملة من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في الجزء الثاني من المقال بإذن الله:
- ما هي طبيعة التحالف بين "الحداثيين" التونسيين وبين السعودية والإمارات: هل هو تحالف تكتيكي مؤقت أم هو تحالف استراتيجي دائم؟ وما هي مواطن القوة والضعف في هذا التحالف وفي غاياته المعلنة والخفية؟
ما الذي لا تريده السعودية والإمارات لتونس؟ أي ما هو الوضع التونسي
- ما الذي لا تريده
السعودية والإمارات لتونس؟ أي ما هو الوضع التونسي الذي تعمل هاتين الدولة على منع انبثاقه ورسوخه بعيدا عن التدخلات الخارجية؟ وهل إنّ هذا الوضع يُمثل تهديدا وجوديا للقوى "الحداثية" في تشكيلاتها/ خطاباتها الحالية التي هي أقرب للمحافظة و"الرجعية" بصرف النظر عن ادعاءاتها الذاتية؟
- هل يمكن فصل المشروع
الإماراتي- السعودي في تونس عن استراتيجيات الفاعلين الدوليين (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)؟ أي هل إنّ ذلك المشروع هو في الحقيقة مشروع "بالمناولة"، وليس مشروعا أصليّا، أم إنه يمتلك حرية مطلقة للتحرك حسب أجنداته الخاصة في تونس؟
- بصرف النظر عن الرفض المبدئي للتدخل الخارجي في الشأن التونسي، وبصرف النظر عن الطابع المثالي أو المعياري لهذا الرفض، هل يمكننا فعلا التسوية بين المحورين التركي- القطري والإماراتي السعودي؟ أي هل أن علاقة هذين المحورين باستحقاقات الثورة وبمشروع "الجمهورية الثانية" واحدة؟ أم إننا محورين لا يمكن التسوية بينهما من منظور المصلحة الوطنية إلا من باب المغالطة والتلبيس والسفسطة؟
- لماذا يتفق "الحداثيون" و"الرجعيتان" الخليجيتان على الموقف العدائي من حركة النهضة في تونس؟ ما هي الرهانات الحقيقة لهذا الموقف وما هي حظوظه في الانتصار أو الانكسار؟ هل سنشهد تَونسة للسيناريو المصري أو الليبي؟ أم أنّ انكسار الموجة الإماراتية- السعودية على الصخرة التونسية سيًعطي النموذج التونسي شرعية إقليمية، تلك الشرعية التي ستجعله أساسا لـ"تَونسة" الوضعين الليبي والمصري، بعد أن دفع الشعبان هناك غاليا كلفة الانقلاب على سلطة الصناديق وعلى قيم التسامح والعيش المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين؟