"أتعس الناس من يستوي لديهم الموت والحياة".. هكذا قال نجيب محفوظ في روايته السمان والخريف. ويحدث ذلك مرتبطا بفقدان الأمل في واقع أو مستقبل آدمي، فيتحول أي منا إلى كتلة من الغضب والتعاسة، ووجودهما معا أشبه بقنبلة موقوتة منعزلة تحمل قرار تفجيرها الذاتي وقتما تشاء.
حادثة حلوان الأخيرة تحمل قدرا من هذه المأساة، وربما تعتبر تمثيلا متكاملا لهذا المشهد الغاضب التعس، وبعيدا عن الأقوال القطعية الدائمة التي تتحدث عن مسؤولية النظام عن كل الحوادث، والتي تبعدنا عن حقيقة الكارثة التي تعيشها بلادنا، كما أنها تشوه أفكارنا تماما كما يشوهها هذا النظام. يجب أن نحاول قراءة المشاهد المتتابعة دون حصار تلك الأقوال القطعية، حتى لا نسقط في عالم مواز وهمي.
حادثة حلوان تحمل قدرا من هذه المأساة، وربما تعتبر تمثيلا متكاملا لهذا المشهد الغاضب التعس، وبعيدا عن الأقوال القطعية الدائمة التي تتحدث عن مسؤولية النظام عن كل الحوادث
المشهد الأول.. العيد الدموي:
كل عام عندما يحتفل مسيحيو مصر بأعيادهم؛ تحدث اقتحامات وانفجارات بكنائسهم، وكأن ذلك أصبح جزءا مراسميا من الاحتفال. هذا التزامن الدائم منذ حادث كنيسة القديسين في 2011؛ أصبح يشير إلى أن ملف الأقلية المسيحية في مصر أصبح محاصرا بين نظام يسعى إلى تصدير أزمته للشارع، وإذكاء الصراع الطائفي ليشوه الصورة ويبعد الأنظار عن أصل الأزمة - لا وهي أن الصراع ليس بين طوائف الشعب ولكنه بين كل الشعب وكل النظام العسكري الحاكم - وبين أن هذا العنف الموجه للمسيحيين أصبح أحد مسارات تفريغ الغضب والتعاسة التي تحدثت عنها؛ من قطاع يرى تلك الصورة المشوهة، ولا زال لا يدرك حقيقة الصراع ومركزه.
ما يهمنا الآن هو إحساس كل مسيحيي مصر وهم يتحركون إلى كنائسهم في أيام عيدهم مع أولادهم.. كل منهم يعلم أنها ربما تكون لحظاته الأخيرة، فما حدث في السنوات العجاف السابقة يقوي هذا الخوف الحقيقي من كارثة ما في مكان ما.. لقد أصبحت المؤسسات المسيحية هدفا للغضب والتعاسة التي تملأ مصر، وهذا بالتأكيد خطأ استراتيجي بالغ، ومسار مجنون لإعلان الغضب، وقد صدّرت تلك الأحداث الغضب والتعاسة لهم، وكأن التعاسة والغضب أصبحت من مستلزمات شعب مصر.
المشهد الثاني.. المسلح الباحث عن رصاصة في صدره:
ربما تلك الحادثة هي أحد أخطر الأحداث العنيفة في مصر منذ الانقلاب العسكري، فكل المشاهد، وما عرفناه عن تلك الحادثة، يشير إلى عدم رغبة المسلح في الانسحاب، فقد أطلق النار وقتل من قتل، ثم تحرك في الشارع بسلاحه المشهر دون أدنى قلق أو توتر، وكأنه يبحث عن رصاصة يتلقاها في صدره. إن أي رد فعل إنساني يستوجب الانسحاب وبسرعة من موقع الخطر، إلا أن حالتي التعاسة والغضب مع فقدان الأمل؛ تجعلان مثل هذا الأمر مستبعدا، ويتغير رد الفعل الإنساني من الرغبة في الانسحاب إلى الرغبة في الموت بأي شكل كان، ووقوف المسلح في وسط الشارع منتظرا رصاصة الخلاص؛ يعلن عن رغبته في ذلك.
ما عرفناه عن تلك الحادثة، يشير لعدم رغبة المسلح في الانسحاب، فقد أطلق النار وقتل من قتل، ثم تحرك في الشارع بسلاحه المشهر دون أدنى قلق أو توتر، وكأنه يبحث عن رصاصة يتلقاها في صدره
الأجهزة الأمنية ومعظم أفرادها يتجنبون المواجهات الحقيقية، ويستمتعون بمواجهات مضللة مصنوعة
مشهد سيارة الشرطة المصفحة التي تنحرف يسارا عندما رأت المسلح؛ هو عبثي قطعا، ولكنه متوافق تماما مع المشهد العبثي الكبير الذي تعيشه مصر.. فهو يؤكد أن هدف كل الأجهزة الأمنية في مصر ليس له علاقة بتأمين الشعب، ويؤكد أيضا أن الأجهزة الأمنية ومعظم أفرادها يتجنبون المواجهات الحقيقية، ويستمتعون بمواجهات مضللة مصنوعة.. فلا مشكلة في ظهور أفراد الأمن الملثمين المدججين بالسلاح والملابس الواقية أمام المخطوفين عندما يغتالونهم، ولا عيب في اختفائهم خلف عرباتهم المصفحة عندما يجدون رجلا مسلحا في وسط الشارع. لم يكن ذلك المشهد الأول؛ فقد رأيناه مرارا على مدى الأعوام السابقة.
إن هذا البؤس الأمني، وتيقن الشعب منه بالصوت والصورة، يجعل معدل انتشار التعاسة وفقدان الأمل، وبالتالي الغضب وسط قطاعات واسعة من المجتمع، يزيد بمعدلات لوغاريتمية غير قابلة للسيطرة، ويجعل جميع المنتهكين الخائفين الغاضبين قنابل محتملة التفجير في وقت ما.
أخشى أن شعب مصر عبر النقطة الحرجة في القدرة على التحمل.. وفي غياب مسارات محددة للغضب تحمل قدرا من الأمل في غد أفضل؛ يذهب المستقبل بمصر إلى محرقة الغضب التي تبدو في الأفق، ويذهب بنا إلى عنف شعبي في مسارات مضللة لا تنتج إلا سيطرة أكبر لسلطة الاحتلال بالوكالة، وتدميرا أكبر لمصر.
أخشى أن شعب مصر عبر النقطة الحرجة في القدرة على التحمل.. وفي غياب مسارات محددة للغضب تحمل قدرا من الأمل في غد أفضل؛ يذهب المستقبل بمصر إلى محرقة الغضب