بعد عام من الأحداث الدرامية المتلاحقة، يصحو أولئك الذين ظنوا أن بإمكانهم إعادة ترتيب الشرق الأوسط ليصبح على الصورة التي يتمنون وبالطريقة التي تعود عليهم بالربح على الصداع الذي جلبوه لأنفسهم.
ثلاثة أحداث حددت معالم الشرق الأوسط في عام 2017، صور كل واحد منها على أنه نصر عسكري مؤزر أو عمل إصلاحي جريء.
كان النجاح كـ"المادة المسكرة" في تأثيرها على دماغ المنتصر، أما النشوة الناجمة عن ذلك فلم تدم طويلا. وكل حدث من هذه الأحداث أطلق بدوره العنان لتغير في التحالفات الإقليمية لم يكن ليخطر ببال.
وبعد مرور عام، يبدو صباح اليوم التالي أقل بهجة في أعين المحركين والمدافعين لهذا العالم العربي الجديد والشجاع عما كان عليه الحال في الليلة الفائتة.
حرب بالخيار
أول نصر تحقق في ذلك العام كان من نصيب الروس الذين استعادوا السيطرة على حلب في الأيام الأخيرة من عام 2016.
لقد احتفل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتنصيب نفسه الحاكم الإمبريالي الجديد لسوريا بالمشي مخلفا وراءه بشار الأسد، الرئيس السوري الذي يتفضل عليه بوتين بإنقاذه.
حصل ذلك في استعراض عسكري داخل قاعدة حميميم في اللاذقية. ربما دون وعي من بوتين، كان المشهد نسخة طبق الأصل من استعراض لحاكم روماني قديم.
كانت سوريا، بالنسبة لبوتين، حربا بالخيار، فروسيا ليس لها حدود مشتركة مع أي دولة عربية وكان بإمكانها أن تترك دمشق تسقط دون أن يمس ذلك روسيا بسوء، إلا أن بوتين قرر أن يقحم نفسه بقوة عسكرية كانت في حينه موضع سخرية من حلف الناتو، على اعتبار أنه يقوم بمغامرة بلا هدف.
لكنه أراد أن يثبت فكرة، ليس فقط بشأن قوته الجوية ولكن أيضا بشأن النظام الدولي الجديد أيضا، مفادها أن أمريكا لم تعد تملك احتكار الخيار العسكري، ولا حق الاعتراض على الخيارات العسكرية للآخرين. ولقد أثبت ذلك فعلا.
إلا أن العواقب الاستراتيجية لذلك التدخل لم تكن بالبساطة التي يمكن لروسيا المنكمشة، والبقية الباقية من القوة العسكرية الكونية التي كان الاتحاد السوفيتي يوما يملكها، أن تتحملها منفردة، ولذلك ما لبث بوتين أن اكتشف أنه بحاجة إلى حلفاء.
بات الأسد الآن عبدا لسيدين: روسيا وإيران، رغم أن مصالح البلدين تتباين، وبشكل خاص بشأن مصير الرئيس السوري، وفي هذا خالف الأسد النهج الذي كان يلتزم به والده من قبل.
فقد كان حافظ الأسد يحتفظ بعلاقات قوية مع إيران وأمريكا في الوقت نفسه، وساعد جورج بوش الأب ضد منافسه البعثي صدام حسين في حرب الخليج الأولى.
لقد حافظ الوالد على استقلال بلده بينما فرط ابنه بذلك الاستقلال، وبرز حافظ الأسد في صورة الحاكم القوي بينما يظهر ابنه في صورة المشلول.
يحتفظ بوتين الآن بقاعدتين دائمتين على ساحل البحر المتوسط، ولكنه في الوقت نفسه يجد يديه مغلولتين بالحطام والدمار الذي آلت إليه سوريا. ولو كان الاتحاد السوفيتي قد أنفق مالا في الشرق الأوسط، ها هي روسيا الفيدرالية تأتي لتجنيه.
وفي هذا السياق لا تُجدي بوتين نفعا طائراته المقاتلة، فهو بحاجة إلى الاستقرار، تلك السلعة المستعصية التي لا هو ولا إيران يملك توفيرها لملايين السوريين الذين سعوا لإنهاء حكم سلالة الأسد، والذين فقدوا كل شيء في هذه الحرب.
ولذلك فإن موسكو وطهران كلاهما تحتاجان إلى تركيا. أما إيران فتحتاج تركيا لإحداث توازن مع روسيا وللتواصل مع العالم السني. في الوقت نفسه تسعى إيران جاهدة لإصلاح الأمور بينها وبين حماس وبينها وبين الإخوان المسلمين في تركيا بعد الأضرار التي نجمت عن تدخلها في سوريا.
وإذا ما أرادت روسيا تحقيق مكاسب من استثمارها في سوريا، على شكل مبيعات سلاح وإقامة مفاعلات نووية، فإنها هي الأخرى بحاجة إلى القفز فوق الانقسام الطائفي.
المعسكر المنافس
في المقابل، تحتاج تركيا إلى كل من روسيا وإيران، وخاصة بعد أن فصلت نفسها، على الأقل من الناحية النفسية، عن الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من أن كل واحدة من هذه الدول لديها أجندة مختلفة في سوريا، إلا أنها في الوقت الحالي تقف في مواجهة مصير واحد وتتصدى لخصوم مشتركين.
بدأ بوتين يدرك أن ثمة فرقا كبيرا بين أن تخرج أمريكا والسعودية من سوريا وأن تصبح سيد حرب أهلية بالية. ما من شك في أن ثوار سوريا تلقوا ضربات قاصمة تحت وطأة سلاح الجو الروسي، ولكن ما زال جمر النزاع متقدا تحت الرماد.
وأما النصر الثاني فأحرزه المعسكر المنافس الذي يتكون من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وتمثل فيما حصل عليه دونالد ترامب في الرياض من ترحيب وإشادة.
كان يفترض أن يبشر ذلك بانطلاق تحالف جديد بين الدول العربية السنية "المعتدلة" في مواجهة إيران والإسلام السياسي وأي تمرد محلي أو أمير منافس يتحدى طغيانهم.
يبدو هذا التحالف على الورق ممسكا بالأوراق كافة: أضخم صناديق ثروة سيادية، وأكبر جيوش، وحراس شخصيين غربيين، وهاكرز، ومساندة إسرائيلية. أما في الواقع، فإن تحالف الطغاة المعاصرين يعاني من العمى، وتحجب عنه الرؤية سحب من خداع الذات.
ما الخلل الذي يمكن أن يحدث؟
كانت خطتهم، مثلها في ذلك مثل ثروتهم، غاية في العظمة والأبهة. ولم تكن تقتصر فقط على شغل الفراغ الذي سيوجده انسحاب أمريكا كقوة هيمنة إقليمية في القرن الحادي والعشرين، وإنما للسيطرة على الاتصالات والمواصلات والتجارة في كل المنطقة المحيطة بالعالم العربي السني، من خلال الموانئ والجزر وخطوط التجارة بدءا من خليج عمان باتجاه قناة السويس غربا وباتجاه إفريقيا جنوبا – فيما يعدّ تشكيلا جديدا لنمط من الامبراطوريات المحمولة بحرا، التي كانت سائدة في القرن السادس عشر.
كان لزيارة ترامب ما بعدها، حيث توالت سلسلة من الإجراءات غير المسبوقة. بادئ ذي بدء فرض الحصار على قطر، ثم أطيح بالأمير محمد بن نايف، أكبر أبناء عم محمد بن سلمان سنا، ثم جاءت حملة التطهير التي شنت على الأمراء، وبعد ذلك صدر الأمر لرئيس وزراء لبنان سعد الحريري بالاستقالة من منصبه، ثم صدرت تعليمات للرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتنازل عن القدس الشرقية وعن حق العودة، أو التخلي عن موقعه لمن لديه الاستعداد لأن يقدم على ذلك.
كانت كل رمية لحجارة النرد تكشف عن العقلية السلطوية للرجال الذين أرادوا الهيمنة على المنطقة، رجال لا يبالون لا بالرأي العام ولا بالمحاسبة ولا بالتاريخ ولا بالدين ولا بالثقافة ولا بالهوية. كل هم هؤلاء الرجال هو أن يحكموا وأن يملكوا وأن يصدروا الأوامر، وكل ما عداهم إنما وجد ليدين لهم بالولاء وبالطاعة.
إعلان ترامب
والآن ننتقل إلى الحدث الثالث والأخير.
فبعد مرور مائة عام على إعلان بلفور خرج ترامب على الناس بإعلان خاص به – أي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولئن كان الحدثان الأول والثاني قد ولدا هزات، فإن الحدث الثالث أطلق كما هائلا من الطاقة تكفي لإحداث زلزال.
كان من جراء ذلك الزلزال أن اثنين من حلفاء واشنطن العتيقين، ملك الأردن عبد الله ورئيس السلطة الفلسطينية عباس، قفزا من السفينة على الملأ. مد ملك الأردن يده إلى تركيا وسوريا وإيران، بينما أعلن عباس أن الولايات المتحدة لم تعد مؤهلة للقيام بدور الوسيط.
ثم تحولت الحرب الصامتة بين تركيا والإمارات إلى حرب صاخبة، وذلك بفضل تغريدة حولت العلاقة بين البلدين إلى مباراة في الصياح المتبادل.
وذلك أن وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد آل نهيان أعاد نشر تغريدة تتهم فخر الدين باشا، الحاكم العثماني الذي دافع عن المدينة المنورة في مواجهة القوات البريطانية، بسرقة ممتلكات السكان المحليين ونهب الآثار الدينية التي كانت بجوار قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فرد عليه أردوغان قائلاً: "أيها البائس الذي يفتري كذبا على أجدادنا، أين كان جدك أنت بينما كان جدنا فخرالدين باشا يدافع عن المدينة المنورة؟".
ظل أردوغان محافظا على وتيرة خطابه ذاك حتى عندما حل في السودان التي زارها يوم الاثنين، وأعلن منها إبرام تركيا سلسلة من الصفقات العسكرية والاقتصادية ذات الدلالة الاستراتيجية المهمة.
يمثل السودان أهمية خاصة بالنسبة لمصر، فهو بلد ضخم، وهو بوابتها إلى إفريقيا، وما لبث يسعى لإصلاح علاقاته مع المملكة العربية السعودية على مدى العامين الماضيين.
وتوقف خلال تلك الفترة عن التعاون مع كل من تركيا وقطر، وكان لذلك وقع شديد على المليشيات الإسلامية في مختلف أرجاء ليبيا. إلا أن السودان اليوم بصدد الانتقال من خندق إلى آخر.
الرسالة السودانية
كنت قد كتبت من قبل عن أن السودان بدأ يناله الإرهاق بسبب دوره في اليمن، حيث يزود قوات التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية بأكبر عدد من العناصر المقاتلة التي تشكل قواته البرية هناك. واليوم، هناك تقارير غير رسمية تفيد بأن السودان بدأ فعلا بسحب جنوده من اليمن.
قبل أيام قليلة من زيارة أردوغان، أبلغ السودان الأمم المتحدة باحتجاجه على اتفاقية الحدود البحرية بين السعودية ومصر، التي وافقت مصر بموجبها على التخلي عن جزيرتي البحر الأحمر غير المأهولتين تيران وصنافير، وذلك لاعتباره أن الاتفاقية داست له على طرف، حيث اعترفت السعودية بموجب هذه الاتفاقية بأن منطقة مثلث حلايب الحدودية المتنازع عليها بين مصر والسودان هي جزء من مصر.
كانت زيارة أردوغان بمنزلة فرصة سانحة أمام السودان لتوجيه رسالة إلى الرياض والقاهرة. فقد أعلن الرئيس التركي أنه سُلم جزيرة سواكن في شرق البحر الأحمر ليقوم بإعادة إعمارها. تحتوي الجزيرة على أطلال ميناء بحري عثماني ليس له حاليا أي استخدام بحري استراتيجي مهم.
إلا أن الاتفاقية العسكرية التي أبرمت خلال الزيارة نفسها بين رؤساء أركان كل من تركيا وقطر والسودان على درجة كبيرة من الأهمية.
فهم السعوديون الرسالة القادمة من السودان، حتى إن صحيفة عكاظ وصفت القرار بالسماح لتركيا بإعادة إعمار الجزيرة بأنه "تهديد سافر للأمن القومي العربي".
وقالت الصحيفة: "تسعى تركيا لفرض هيمنتها على منطقة القرن الإفريقي، من خلال تقديم المساعدة العسكرية وإقامة القواعد لنفسها في بلدان إفريقيا".
وأضافت: "تمثل إقامة قواعد عسكرية في السودان تهديدا صريحا للدولة المصرية، وذلك على خلفية العلاقات المتوترة بين القاهرة وأنقرة وتصاعد النزاع المصري السوداني بخصوص حلايب والشلاتين".
صباح اليوم التالي
إذن، كيف يبدو الشكل الجديد للعالم العربي بعد عام من الأحداث الدرامية المتتابعة؟ لقد تقلص مجال النفود الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية. بدأ العام المنصرم والمملكة العربية السعودية تترأس مجلس التعاون الخليجي بأعضائه الستة، التي ما لبثت أن دعت خمسة وخمسين زعيما من الأقطار ذات الأغلبية المسلمة للاستماع إلى ترامب، وهو يعظهم ويحاضر فيهم حول الإسلام المتطرف.
ثم انتهى العام بنزيف حاد في ذلك الدعم، حتى إن السعودية فقدت نفوذها في لبنان بالكامل.
وكما قال أحد السياسيين السنة، لو أن إيران أنفقت مليارات الدولارات سعيا منها لتحويل الرأي العام في لبنان ضد المملكة العربية السعودية، لما تمكنت من تحقيق إنجاز أفضل مما يسره لها السعوديون أنفسهم من خلال إجبارهم لسعد الحريري على الاستقالة من منصبه.
يعتقد محمد بن سلمان أنه طالما ضمن وقوف ترامب وإسرائيل إلى جانبه فلا شيء آخر يهم. إلا أن حسبته تلك ناجمة عن ثلاثة أخطاء جسيمة.
أما الخطأ الأول فهو افتراض أن ترامب سيستمر في رئاسة الولايات المتحدة، وهي الفرضية التي يدحضها ستيف بانون، ضمن آخرين، حيث أخبر مجلة فانيتي فير بأنه لا يمنح ترامب أكثر من نسبة 30% في أن يفلح في تجنب الإنهاء المبكر لفترة رئاسته الأولى، إما بسبب توجيه اتهام له بالخيانة من قبل الكونغرس أو بسبب قرار عزل له تصدره الإدارة؛ تفعيلا للتعديل الخامس والعشرين في الدستور. ودون ترامب ستؤول إلى ركام كل خطط بن سلمان العظيمة.
وأيا كان الرئيس الذي سيخلفه، فإنه لن يسمح بالاستمرار في هذا الطريق المدمر نفسه.
وأما الخطأ الثاني فيتعلق بنظرته لإسرائيل، وما من شك في أن الإسرائيليين أكثر فطنة وحنكة ودارية وأصوب قراءة لما يدور في واشنطن مقارنة بحال السعوديين السذج والمبتدئين.
وهذا ما يفسر مسارعة الإسرائيليين إلى خلق مزيد من الحقائق على الأرض، ووضع آخر لبنات في جدار المستوطنات التي يقيمونها حول القدس.
رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو رجل في عجلة من أمره، لا يريد فقط استكمال ضم القدس الكبرى وإنما يريد أيضا الحصول على توقيع ترامب على ذلك، بينما لايزال في السلطة.
وأما الخطأ الثالث في خطة ابن سلمان فيتعلق بالقدس. وذلك أن إعلان ترامب بشأنها أدى ما بين عشية وضحاها إلى إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، التي تراجع الاهتمام بها بسبب الانتفاضات العربية التي انطلقت عام 2011 والثورة المضادة التي جاءت من بعد، ووضعها تارة أخرى في الصدارة باعتبارها القضية المركزية، ولم تعد سوريا هي الموضوع الرئيسي.
ونتيجة لذلك، لم يعد أمام الفلسطينيين من خيار سوى إشعال انتفاضة ثالثة. ولقد حذر مسؤولو الأمن الإسرائيليون قادتهم السياسيين من المزاج السائد في الميدان، وقالوا لهم إن مستويات التوتر في قطاع غزة تذكرهم بالأوضاع التي كانت سائدة عشية الحرب التي شنت على غزة في عام 2014.
ولعل ذلك ما ينتظر العام 2018، بل لقد أدى صعود طاغية سعودي جديد متمثل في ابن سلمان، بما لديه من طموح في أن يصبح سيد المنطقة، إلى تنشيط وتفعيل المعسكر القطري، الذي يتمتع الآن بمساندة عسكرية تركية وسودانية وبدعم لوجستي من قبل إيران.
المهم أن القضية الفلسطينية عادت إلى الصدارة وباتت هي مركز التباينات بين المعسكرين، وفي هذه الأثناء عاد الإسلام السياسي كلاعب قوي، ولا أدل على ذلك من أن محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، وبعد أن لم يبق في أياديهما شيء من الأوراق في اليمن، راحا يغازلان زعماء التجمع اليمني للإصلاح. كما أن أنصار الإسلام السياسي أظهروا ما لديهم من قوة من خلال المسيرات الاحتجاجية التي نظمت في الأردن وحول العالم بشأن قضية القدس.
بدأ العام المنصرم بحالة من الغرور القاتل لدى أولئك الذين ظنوا أن بإمكانهم إعادة ترتيب الشرق الأوسط، ليصبح على الصورة التي يتمنون وبالطريقة التي تعود عليهم بالربح. أما الآن فها هم يصحون من غفوتهم على أوجاع الصداع الذي جلبوه لأنفسهم.
ترجمة "عربي21" عن موقع ميدل إيست آي