طاسة الحصار

حدثني أحد الأصدقاء الأعزاء عن بعض نشاطات إحدى المافيات في باكستان، وأساليبها المنافية للإنسانية في العمل والتجنيد. ومما لفت انتباهي من تلك الأساليب؛ ذاك الذي يتعلق بتجنيد الأطفال الصغار، وإجبارهم على ممارسة الأفعال الإجرامية بطريقة يندى لها الجبين.

تبدأ الحكاية وتنتهي عند سرقة هذا الطفل البريء من بين أحضان أمه وأبيه، ثم يُوضع في رأسه طاسة من النحاس التي تتناسب مع حجم رأسه الطفولي، بحيث تبقى ملازمة له فترة كبيرة من الزمن؛ بهدف إيقاف نمو خلايا الدماغ وما يتصل بها من أعصاب وشعيرات مختلفة، فيبقى الإنسان ضعيف التفكير، محدود الإدراك مهما تقدم به العمر، فضلا عن التشويه الشكلي الذي يطرأ على رأس الإنسان، مما يمنحه صفة غير طبيعية تؤهله من ممارسة النشاطات غير الشرعية، والاستمرار بها

هذا الأمر الذي دفعنا للتساؤل عن الجيل الشبابي الغزي الذي كبر وترعرع في ظل طاسة الحصار المفروضة على رأسه منذ أكثر من عشر سنوات متواصلة، باكتظاظ سكاني تجاوز مليوني إنسان، على مساحة جغرافية لا تزيد عن 365 كم.. هل فعلا نجح الاحتلال الصهيوني في برمجة عقول أهل قطاع غزة على أمور محددة، بحيث لا يتم تجاوز كلماتها الصغيرة ومساحتها الضيقة؟

للأسف، إنَّ الناظر إلى أحوالنا المختلفة يجدنا ندور في دائرة مفرغة من التفكير والتعبير. فحديثنا لا يُغادر مواضيع الرواتب المنقوصة، والكهرباء غير الموجودة، والشوارع الضيقة، والمعبر المغلق على الدوام، والأفق القاتم. لقد أصبحت هذه الصورة المشوهة هي سمة أغلب العقول التي تأثرت بطاسة الحصار.

كيف لا تتأثر، والمشكلة تتعلق بأساس الحياة وضروراتها، وحقوق الإنسان وكرامته، والروتين القاتل الذي يحد من طموح الإنسان وعزيمته؟ فأغلب الشباب لم يُسافر ولم يحتك بغيره ليتسنى له التعرف على ثقافات جديدة، ومسارات فاعلة.

وعليه، فإننا أمام مشكلة كبيرة - وكبيرة جدا - تستهدف جيلا كاملا؛ ليصبح عبئا ثقيلا على مجتمعه ومؤسساته المتنوعة. لذلك، وجب علينا جميعا، مؤسسات وأفرادا، أحزابا وجماعات، شعوبا وحكومات، أن نتكاتف لرفع الحصار الظالم عن قطاع غزة مهما كلف الأمر من عمل وتضحيات. ومن هنا نُطالب الرئيس أبو مازن خصوصا، والفصائل الفلسطينية عموما؛ بمنح ملف المصالحة الفلسطينية الأولوية الأولى في الحل؛ لتقوية الصف الداخلي الذي نستطيع من خلاله كسب المعارك الأخرى، وعلى رأسها معركة القدس والمسجد الأقصى المبارك.