مع تشكيل حكومة سعد الدين العثماني، دخل حزب العدالة والتنمية أزمة عميقة؛ بسبب تباين شديد بين مكوناته في قراءة اللحظة السياسية والسياق الدولي والإقليمي، وموقع الإسلاميين في هذا السياق، وكذا الجواب السياسي الجماعي الذي يمكن أن يقدمه بهذا الشأن.
منهجية الحزب البراغماتية، أو بعبارة أدق منهجية بنكيران، جنبت الحزب الدخول في أجندة الحوار حول الجواب الجماعي للمرحلة؛ في الوقت الذي ينتظر فيه الحزبَ استحقاقٌ تنظيمي يرتبط بتجديد القيادة وتجديد المشروعية، ففضل أن يتجه نحو الحسم التنظيمي عبر اعتماد الآلية الديمقراطية في المجلس الوطني في موضوع الولاية الثالثة، والمؤتمر في قضية انتخاب الأمين العام، والحسم في التباين الشديد بين خيار قيادة الحزب والحكومة برأس واحد، وخيار التمايز والمسافة بين العمل الحزبي والعمل الحكومي.
منهجية بنكيران، جنبت الحزب الدخول في أجندة الحوار حول الجواب الجماعي للمرحلة؛ في الوقت الذي ينتظر فيه الحزبَ استحقاقٌ تنظيمي
طبعا؛ الجميع كان يعتبر أن هذا الجواب ليس مكتملا، إذ لا يمكن أن يكون الحسم التنظيمي بديلا عن الحوار الداخلي؛ لخلق شروط تملك الجواب السياسي الجماعي عن المرحلة.
كانت صيغة
بنكيران لتدبير هذه المرحلة الحرجة أن تتحمل القيادة الجديدة، أو للدقة، المشروعية السياسية للقيادة الجديدة، مسؤوليتها في إنتاج الرؤية الجماعية التي يمكن من خلالها تأطير الحزب والعمل الحكومي، وخلق صيغة الإسناد السياسي للحكومة والتعاقدات الضرورية بهذا الشأن.
اليوم المؤتمر أصبح وراء الظهور، والحسم تم على مستويين،
فتم رفض الولاية الثالثة، بما يعنيه ذلك من انتهاء فترة بنكيران في تدبير قيادة الحزب لهذه المرحلة. كما تم انتخاب الدكتور سعد الدين العثماني بفارق بسيط بينه وبين الدكتور إدريس الأزمي؛ الذي كان يمثل - إن صح التعبير - تيار استعادة المبادرة. والتحديات المطروحة على الحزب اليوم صارت أكبر من التحديات السابقة، وذلك لجملة اعتبارات:
- أولها أن نجاح بنكيران في تدبير هذه المرحلة الدقيقة التي عرفت اصطفافا غير مسبوق بين مكونات الحزب؛ حصّن وحدة الحزب وضمن تماسكه. لكن هذا النجاح لا يعني أن هذا التحدي لم يعد مطروحا، فيمكن في أي لحظة أن يعود هذا الاصطفاف، بل ربما ظهرت بعض مؤشراته بعد بعض الخيارات القانونية التي قام بها الدكتور سعد الدين العثماني عقب انتخابه أمينا عاما للحزب، وذلك حين غلب منطق الفريق المنسجم في ترشيحه لأعضاء الأمانة العامة بدل اعتماد منطق التوافق والاستيعاب وقراءة نتائج انتخابات المجلس الوطني من جهة، ونتائج انتخابه من جهة ثانية، ونوعية تصويت المجلس الوطني الجديد على بعض الأسماء المرشحة من جهة ثالثة.
الحزب لا يمتلك لحد الآن جوابا سياسيا جماعيا على المرحلة، وأن كل ما يملك بهذا الصدد أن قيادته الجديدة تبحث في شروط انطلاق هذا الحوار
- ثانيا، أن الحزب لا يمتلك لحد الآن جوابا سياسيا جماعيا على المرحلة، وأن كل ما يملك بهذا الصدد أن قيادته الجديدة تبحث في شروط انطلاق هذا الحوار، بدءا من منهجيته ومكوناته وطريقة إدارته.
- ثالثا، أن الإشارة التي تم التقاطها من الرسالة الملكية، التي هنأت الدكتور سعد الدين العثماني وأشادت بسلفه الأستاذ عبد الإله بنكيران، تعني أن قضية تقدم الحزب سيكون دائما مسقفا بإطار التوازنات السياسية (التعددية)، بما يعني أن السقوف العليا للتقدم الانتخابي، وانعكاساته على خارطة التشكيلة الحكومية وعلى مسار الإصلاح، سيكون من ضمن الخطوط الحمر التي يصعب على حزب العدالة والتنمية تجاوزها، وأن "البلوكاج" سيلاحقه كلما رام الاقتراب من السقف الذي تطلع إليه الأستاذ عبد الإله بنكيران، حينما حقق انتصارين انتخابيين ساحقين في الجماعات المحلية وفي الانتخابات التشريعية؛ وأراد ترتيب ما ينبغي ترتيبه سياسيا على نتائج السابع أكتوبر
- رابعا، أن الجمهور الواسع الذي قدم صوته للعدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية السابقة (السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) كان يؤطر سلوكه الانتخابي بصيغة اجترحها بنكيران في العمل السياسي؛ تعتمد التشبث بالمؤسسات الدستورية والشراكة مع الملكية، والإصرار على الإصلاح، والحفاظ على الاستقرار وتحويل الحزب من منطق الطائفة إلى الحالة الإصلاحية العامة، وتوسيع التحالفات على قاعدة الديمقراطية مع مختلف الطيف الوطني والديمقراطي، مما يعني أن الحفاظ على هذا الجمهور الواسع، وبشكل خاص الطبقة الوسطى بتعدد مكوناتها، صار من التحديات الكبرى أمام هذا الحزب وأمام مساره الإصلاحي.
هناك حالة من الإحباط من تغير أسلوب السياسة في المغرب بعد إعفاء بنكيران
- خامسا، أن جزءا مهما من الشعب يرى أن الطريقة التي تم بها تشكيل الحكومة، وأسلوب سعد الدين العثماني في إدارة العمل الحكومي، والتفاوض الضمني الذي يمارسه عمليا لتحسين تموقع القوى الإصلاحية؛ لا زال حتى الآن محدودا وغير مقنع، هذا إن لم نقل بأن هناك حالة من الإحباط من تغير أسلوب السياسة في
المغرب بعد إعفاء بنكيران.
طبعا، لا يمكن أن نقارن أسلوب العثماني بأسلوب بنكيران، كما لا يمكن أن نتوقع بالتحديد طبيعة الجواب السياسي الذي يمكن أن يذهب إليه هذا الحزب، كما أنه من السابق لأوانه الحكم بأن هذه الحكومة لا تملك خيارات للاستدراك واستعادة المبادرة لو تم التفكير في صيغة للتأطير السياسي للحكومة وإسنادها سياسيا وحمايتها وتقوية موقعها التفاوضي حزبيا ومدنيا.
سننتظر الشهور القليلة القادمة، حتى تبادر القيادة الجديدة لفتح ورش الحوار الداخلي، ووضع شروط صلبة لإنجاح هذه التجربة
سننتظر الشهور القليلة القادمة، حتى تبادر القيادة الجديدة لفتح ورش الحوار الداخلي، ووضع شروط صلبة لإنجاح هذه التجربة، والتي تتطلب وضع لمسات حقيقية على تركيبة القيادة، ولجنة إدارة الحوار، والاختيار القاصد لمكوناته وفعالياته، وبعث إشارات كافية للداخل الحزبي في اتجاه لملمة جراحه وتعبئة جاهزيته، وفتح نوافذ كثيرة لاستيعاب وجهات النظر الأخرى، وتوسيع حجم المشاركة، مع إضفاء مصداقية كبرى على منهجية الحوار وآليته ونتائجه وتنفيذ مخرجاته.
حتى الآن؛ الرسائل في هذا الاتجاه لا تزال محدودة، والأسلوب في الجوهر لم يتغير، والضغط على الحزب لا يزال مستمرا، سوى أن جزءا من الداخل الحزبي، وبشكل خاص، الفعاليات المؤثرة فيه، تريد أن تقدم إشارات الطمأنة والثقة، وعدم الانخراط في توسيع هوة الخلاف في انتظار أن تلتقط القيادة هذه الإشارة الإضافية، فتصحح أخطاء الماضي لتتملك الحاضر والمستقبل.