المشروع الصهيوني واضح منذ البداية، وهو التهام كل فلسطين والقدس، ولكن هذا المشروع يتم تنفيذه على مراحل وفقا لاعتبارات سبق ذكرها. وتحاول إسرائيل أن تلقي ظلالا من الشك حول القدس بشكل خاص، فقد تساءلت المواقع الإسرائيلية عن طبيعة النزاع حول القدس: سياسي أم ديني؟ حتى يمكن للقارئ العربي أن يتشتت بين الطابعين.
فإذا كان النزاع سياسيا، أي بين إسرائيل والفلسطينيين، فلا علاقة بين القدس والعالم الإسلامي.. ولهذا السبب ركزت إسرائيل على أن النزاع في القدس مع الفلسطينيين نزاع سياسي، ولكنه عند إسرائيل قضية دينية توراتية، ذلك أن إسرائيل وكبار الحاخامات يعتقدون أن اكتمال سيطرة إسرائيل على القدس وهدم المسجد الأقصى؛ يقرب نزول السيد المسيح المخلص، وهذه هي النقطة التي أقنع بها اليهود المسيحيين بأن الكتاب المقدس لهما كتاب واحد؛ ينقسم إلى العهد القديم والعهد الجديد، وأن هناك تكاملا بين المسيحية واليهودية، واستندوا في ذلك إلى حقيقة ثابتة، وهي أن التوراة والانجيل وموسى وعيسى قد بعثوا لبني إسرائيل على التوالي، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعث للعرب. وقد ترجم اليهود ذلك بأن النبوة في بني إسرائيل ومعها السيادة لليهود، وهو تناقض واضح مع ادعاء الجمع بين اليهودية والمسيحية في كتاب واحد، ولكن القرآن الكريم أخبرنا بأن بني إسرائيل كفروا بما أنزل عليهم، وبرّأهم من قتل عيسى، رغم أن الجزء الأساسي في العقيدة المسيحية قائم على أن اليهود في عهد الرومان قد قتلوا عيسى وصلبوه.
إذا كان النزاع سياسيا، أي بين إسرائيل والفلسطينيين، فلا علاقة بين القدس والعالم الإسلامي.. ولهذا السبب ركزت إسرائيل على أن النزاع في القدس مع الفلسطينيين نزاع سياسي
كذلك شكك الإسرائيليون في الرواية القرآنية عن القدس، فقالوا إن القرآن تحدث فقط عن المسجد الأقصى ولم يتحدث عن القدس، ومعنى ذلك أن المسجد الأقصى وحده هو ملك للمسلمين، وأما القدس فهي مدينة مقدسة لليهود والمسيحيين أيضا.
والعجيب، أن الدول العربية قد تراجع موقفها في القضية من المطالبة بكل فلسطين إلى المطالبة بما تبقى منها بعد احتلال إسرائيل لمعظم أراضيها، كذلك تراجع الموقف العربي من المطالبة بكل القدس إلى المطالبة بشرق القدس، بل المطالبة فقط بالمسجد الأقصى، ووضع هذا الاقتراح في إطار سيطرة إسرائيل على المكان مع السماح بحرية العبادة لأتباع الشرائع الثلاثة.
ومن الواضح أن إسرائيل اختبرت المواقف العربية ومدى تمسكها بالقدس، وخلصت إلى أن هناك ارتباكا في الموقف العربي، علما بأن قضية القدس واحتلال إسرائيل لها كاملا عام 1967، ثم حريق المسجد الأقصى، هما القضيتان اللتان أدخلتا العالم الإسلامي مع العالم العربي في القضية الفلسطينية، وهذا هو السبب في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي الآن) عام 1969، ومهمتها الأساسية هي استرداد الأماكن المقدسة، وهي القدس في فلسطين ومساندة الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل.
من الناحية الدينية، يعتبر المسجد الأقصى القبلة الأولى للمسلمين بعد أن تقررت الصلاة بمناسبة الإسراء والمعراج في العام الثاني للهجرة، بل إن عمر بن الخطاب اعتبر مدينة القدس، وليس فقط المسجد الأقصى وقفا للمسلمين.
ويشير القرآن الكريم إلى أن القبلة قد تحولت من المسجد الأقصى إلى بيت الله الحرام في مكة، إرضاء وتكريما للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي رغبة ظلت كامنة في نفسه ولم يبدها لأحد لقوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام..".
ومعنى ذلك، أن المسجد الحرام جزء من عقيدة المسلمين والدفاع عنه فريضة دينية. وليس معنى ذلك أن يترخص المسلمون في باقى أجزاء القدس خارج المسجد الأقصى، وإنما الواضح أن مدينة القدس جزء من فلسطين، وأن فلسطين كلها عربية فإذا كانت مدينة القدس تضم المسجد الأقصى للمسلمين، فإنها تضم كنيسة القيامة للمسيحيين، وكلها ملك للفلسطينيين. وقد أكدت منظمة اليونسكو في قرارات متعددة أن مدينة القدس تخلو من أي آثار يهودية، وكان آخرها القرار الصادر عام 2016، وهذا يناقض تماما مزاعم إسرائيل وأنصارها.
وجود المقدسات في بلد لا يعني أن أتباع الشرائع لهم حق في هذا البلد. وتطبيقا لذلك،
من ناحية أخرى، فإن وجود المقدسات في بلد لا يعني أن أتباع الشرائع لهم حق في هذا البلد. وتطبيقا لذلك، فإن مكة والمدينة تقع في الأراضي السعودية، وأن الحج والعمرة جزء من عقيدة المسلمين. كذلك، فإن وقوع المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في القدس أو في محيطها؛ لا يعنى سلطة كل من هو مسلم أو من هو مسيحي على الأماكن المقدسة، مع الفارق بين زيارة المسجد الأقصى وزيارة بيت الله الحرام، ولو استمر المسجد الأقصى قبلة للمسلمين لكان الحج إليه فريضة، كما هو الحال مع بيت الله الحرام.
نخلص مما تقدم؛ إلى أن القدس قضية دينية تخص المسلمين والمسيحين على امتداد المعمورة، وهي قضية سياسية تخص الفلسطينيين، أصحاب فلسطين، ولا علاقة لإسرائيل بفلسطين أو بالقدس، وأن ما تدعيه هو مجرد تبرير لاغتصاب قلب فلسطين، وهو القدس.
وختاما، من الواضح أن إسرائيل قد بلغت نهايات مشروعها في فلسطين، وأنها دفعت الفلسطينيين إلى الحائط بمبررات زائفة، وأشهرها عملية السلام.. فأي سلام يرجى بين ذئب يلتهم كل شيء، وبين صاحب الأرض الذي قبل أن يفسح للاجئين اليهود مكانا عنده، فإذا بالزائر يلقي بصاحب الدار خارج الدار، وتلك لحظة كاشفة في مسيرة المشروع الذي ظن أنه بلغ نهايته بقرار الرئيس الأمريكي بضم القدس إلى إسرائيل، وتشجيع دول العالم على انتهاك كل المرجعيات القانونية التي تحكم الوضع القانوني لمدينة القدس وفلسطين.