الجنون على مدى تاريخه لم يكن مرضا عقليا خالصا، لكنه في الغالب هو الخروج عن النسق العام الغالب من الأفكار والعادات السائدة، وربما الجنون الآن هو تعبير عن الرفض والعناد. وإذا كانت الأفكار السائدة الآن -وهي الجنون بعينه- أصبحت عين العقل، فكل من يعاندها ويرفضها يوصف بسلطة الواقع بأنه مجنون أحمق، لا حل له إلا بوضعه في مصحات عقلية، سواء كانت بأسوار حقيقية أو بأسوار أكثر قسوة من التهميش والتحقير.
كان الأسبوع الماضي أسبوعا حافلا ومؤلما، فقد أوضحت الأحداث المتلاحقة أن ثمة خلل ما في طريقة التعامل مع الواقع المصري شديد الوضوح، وأكدت أن تأثير سلطة القوة متجاوز للأفراد "العاديين" في المجتمع، أصحاب العلم والثقافة والثروة المحدودة، وأن تأثير سلطة القوة يحاصر الكثير. وهناك مشهدان كبيران يوضحان ذلك التأثير الفاضح، والمشهدان يحملان رائحة الزي الكاكي الذي لم يعد فقط لونا، بل عنوان القوة في مصر.
المشهد الأول:
أحمد شفيق، مرشح الثورة المضادة في 2012، يعلن عن ترشحه لما يسمى انتخابات الرئاسة في 2018، وحالة من النشوة المحمومة ممن يملأون جنبات إسطنبول وقطر ولندن وباريس، وغيرها من العواصم التي تمتلئ بمن يفترض أنهم خرجوا من مصر لمحاولة دعم الثورة المصرية في مأزقها الحالي، إلا أن تلك النشوة المحمومة تنبئ بأن هناك شيئا ما غامض في هذا المشهد. أحمد شفيق قائد القوات الجوية الأسبق ووزير الطيران المدني عشر سنوات في عهد مبارك، والرجل الذي دفع به النظام في الواجهة في أكثر لحظاته ضعفا في 2011، وهو من دفعوه في المقدمة في لحظة الحسم الانتخابي في 2012 كمحاولة لاحتواء ثورة يناير.. هذا الرجل الآن يلقى دعما وتأييدا في حالة من نشوة الانتصار من كل العواصم المذكورة، وكأننا فقدنا الذاكرة أو يراد لنا فقدانها.
المشهد الثاني:
عقيد مهندس بالقوات المسلحة يعلن ببزته العسكرية، وهو بالخدمة، عن ترشحه للرئاسة، في كوميديا سوداء، ولا يخفي تأييده الكامل لما تسمى القوات المسلحة، وأنها درع الوطن -لا أعرف عن أي وطن يتحدث- كما لا يجد حرجا في الاعتراف بأن انقلاب 30 حزيران/ يونيو هو ثورة شعبية!!
لا أقرر ما يجب على أحمد شفيق أو أحمد قنصوه ما يقولان، فهما حُران في ملهاتهما، ولكن العجيب جدا هو حالة الحماس المرتبطة بالفعلين من داخل قطاع واسع من "مؤيدي الثورة". ونحتاج تقريبا على فترات ليست متباعدة؛ لتوضيح أمور من المفترض أن تكون واضحة في ذهن جميع من يسعون لحتمية التغيير العميق في مصر، فيجب أولا الإقرار بأن مصر تتصارع تحت ثلاث مساحات مختلفة، وليست اثنتين كما يحاول الكثير فرض تلك الرؤية علينا.
المساحة الأولى هي الحكم العسكري الخالص، وأعتقد أن تلك المرحلة في المنطقة والعالم تحتاج إلى أن يكون كذلك، فلا أفهم المنطق الذي يحاول بث فكرة أن القوى الدولية والإقليمية تسعى لتغيير النظام العسكري، وهذا يحتاج للكثير من الحديث ليس هذا موضعه. المساحة الثانية هي مساحة حكم القوى التابعة للعسكر، والتي تسلم بحتمية وجودهم في رأس السلطة حتى لو من وراء ستار، وتبقى (القوى) في المقدمة كواجهة لهم، وهو هدف الكثير من النخب المصرية، سواء في مصر أو خارجها. والمساحة الثالثة هي مساحة الثورة الشاملة، وهي الآن تواجه تحديات كبيرة للغاية، بالرغم من وجود بعض المؤشرات التي يحاول البعض إخفاءها باتساعها المطرد.
هذا التصنيف السريع مهم لمحاولة تفهم رد الفعل المأسوي حول ما قاله أحمد شفيق وقنصوه (الفريق والعقيد). إن ذلك يدل على أن الكثير من القوى السياسية في مصر لا ترى مصدرا للقوة إلا من داخل الجيش، وهناك حالة انهزام كبيرة أمام أي رداء كاكي، ويقين دفين أن الحل فقط لن يأتي إلا من داخل الجيش. وهذا النمط في التفكير والقناعات يشير بحسم إلى أن تلك القوى لا تؤمن حقيقة بالتغيير الشامل، وترى استحالته، بل ربما عدم منطقيته وجدواه.
لا مشكلة في أن يرى كل شخص ما يراه صالحا ومناسبا، ولكن الأزمة هي استمرار إلباس فكرة الثورة لهذا الهزل، واستمرار الأخطاء التاريخية التي قاموا بها على مر العقود السابقة التي أحكمت فيها سيطرة الدولة على كل شيء في مصر. والأجدى أن يقرر كل من ينبهر باللون الكاكي ويخضع لسحره؛ أن يعلن أنه إما جزء من النظام أو معارض له، دون الدعوة للثورة عليه ودون خلط الأوراق وتشويه المفاهيم.
إن ذلك أكثر جدوى للجميع، فهو جيد لكل هذه الرموز، حيث يمكنهم العمل السياسي وإثبات نظريتهم عن فكرة الإصلاح من الداخل التي فشلت عشرات المرات في مصر، بل وعشناها رأي العين في السنوات السبع السابقة، كما أنهم يتحللون من ضغط المؤمنين بالثورة عليهم. صحيح أنه ربما يتعرضون للانتقادات، ولكن هذا -على أي حال- أفضل للجميع من الوضع الحالي. ربما يرى البعض أن هذه الرموز تخشى الإعلان عن الحقيقة حتى لا تفقد قواعدها الشعبية، ولكن المفترض أن تعبر القيادات عن قواعدها، وإن لم ترغب أو تتحمل ذلك، أو أنها ترى أن تلك القواعد الجماهيرية ليست مؤهلة أو تمتلك الحكمة على إدارة العمل السياسي، فمن العدالة أن تنسحب من مشهد لا يمثلها، أما استمرار ذلك العبث فهو مدمر للجميع.
وهو أيضا أكثر جدوى للمؤمنين بالتغيير الثوري العميق، فهو يحلهم من قيادات لا تمثلهم، ومن رموز لا تعتقد فيهم الحكمة، ويعطيهم الفرصة للتحرك بشكل أكثر حرية بعيدا عن الخلط المتعمد بين مساحتين لا يمكنهما الاتفاق أو الاستمرار معا.
إن كل الشواهد خلال الأعوام السابقة تشير إلى أن مشروع النخب المصرية، سواء من كانت في مأساة 30 حزيران/ يونيو أو غيرهم ممن تهافتوا على سحر الكاكي؛ هو أقرب بكثير إلى مشروع الحكم العسكري منهم إلى مشروع الثورة الشاملة، إذا لماذا كل هذا العناء والصراع، وليترك كل منا يعمل في طريقه الذي اختاره، فقط نعلن الحقيقة أن كل محاولات الحل السياسي الحالي ليس لها علاقة بالثورة من قريب أو بعيد، وهي محاولات لإعادة فكرة الإصلاح من الداخل التي فشلت قبل ذلك. وليس ذلك فقط، بل نحن شاهدنا وعايشنا ذلك، وليترك هؤلاء من يدعون لثورة شاملة في عملهم دون مزاحمتهم المخادعة في مساحة الثورة.
وإذا كانت النخب المصرية المتهافتة على سحر الكاكي ترى استحالة ذلك، بل وتعتبرها حماقة وهدما، فلماذا إذا يحاولون التواجد في تلك المساحة؟ ربما من أجل قواعدها الشعبية الغاضبة، وربما من أجل الكبح الدائم لجماح أي تحرك ربما يؤدي إلى ثورة حقيقية لا يرضونها.
دعونا نتفق؛ اتركوا لنا مساحة الثورة، وأعلنوا أنكم لا تنتمون إليها، وأن الأمور لن تحل إلا داخل مساحة الكاكي الساحر، واتركونا نعمل دون مزاحمة زائفة، وإذا كانت القواعد الشعبية تعيق البعض عن ذلك، فلينسحب تماما من المشهد من لا يستطيع الإعلان عما يؤمن به.
يبدو أن ذلك مستحيل على الأقل مرحليا، فالكاكي الساحر ذو البيان والجلال لم يعد فقط في القاهرة، لكنه في إسطنبول والدوحة ولندن وباريس وغيرها، يعلن عن نفسه، وعن سحره الفتان.