تنشط بين فترة وأخرى حملة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ تسيء للفلسطينيين وتدعو للتخلص من قضيتهم، وقد تصل إلى درجة التسليم بحقّ الصهاينة في فلسطين.. هذه الحملات ينشط فيها سعوديون، ممن عُرفوا أخيرا باللجان الالكترونية، أو "الذباب الإلكتروني"؛ والتي يقال إن مستشارا في الديوان الملكي السعودي هو الذي يقودها. بيد أن الأمر لا يقتصر على تلك اللجان، ولكن تسندها شخصيات معروفة، سواء في المواقع ذاتها، أو في الصحافة الورقية، أو في الفضائيات التلفزيونية.
يستحيل بداهة أن تكون هذه الحملات خارج الإرادة الرسمية، وهذه الحقيقة تحيل إلى سلوك دفن الرأس في الرمال الذي تمارسه بعض الشخصيات السعودية الناشطة في المواقع إياها؛ التي تنفي وجود أيّ توجّه رسمي تطبيعيّ لحكومتها مع الكيان الصهيوني، وتنسب هذه الاتهامات لقطر ومن يدور في فلكها، وهي بالتأكيد لن يفوتها التذكير بالسلوك التطبيعيّ الذي مارسته قطر.
يستحيل بداهة أن تكون هذه الحملات خارج الإرادة الرسمية، وهذه الحقيقة تحيل إلى سلوك دفن الرأس في الرمال الذي تمارسه بعض الشخصيات السعودية الناشطة
وهذا يستدعي نقطتين ينبغي التأكيد عليهما:
أمّا الأولى، فهي معنى دفن الرأس في الرمال، إذ إن حكومة اعتقلت عشرات الدعاة والمثقفين والنشطاء، وتعاقب صراحة على أيّ مظهر من مظاهر التعاطف مع قطر، وتوصل ذلك إلى درجة الاتهام بالخيانة، وتوقف من تشاء عن الكتابة، لا في الصحافة المحلية المطبوعة فحسب، بل وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي، في ظاهرة بالغة الشذوذ، وفي ظلّ ادعاءات الإصلاح.. إن حكومة كهذه، لا يمكن أنّ تمرّ دون رضاها، بل دون تعليماتها، حملات
التطبيع والإساءة للفلسطينيين، بل والمخالفات العقدية التي تُبخّس من المسجد الأقصى في بلد يدّعي حماية جناب التوحيد!
كان يمكن لتلك الشخصيات التي ترفض التطبيع، وتنفي أن تكون حكومتها متورطة في علاقات مع الاحتلال، أن تسائل حكومتها عن السرّ الذي يدعوها لاعتقال الدعاة والمثقفين؛ على لا شيء حرفيّا، وتمنع العديد من الكتابة، وتعاقب من يتعاطف مع قطر، بينما ظاهر سلوكها لا يعارض هذه الحملات المكثّفة التي لا تكتفي بالدعوة للاستغراق في الشأن السعودي، والتخلّي عن القضية الفلسطينية، وإنّما تقترف خطايا دينية وأخلاقية وسياسية، وهي تسيء لشعب كامل، ولمقدّس من مقدّسات المسلمين، وتتماهى مع الرواية الصهيونية الاستعمارية!
أمّا الثانية، وهي المتعلقة بقطر، ومهما كان السياق الذي جاءت فيه علاقات قطر بالكيان الصهيوني، في مرحلة دفع لما سمّي بعملية السلام بعد أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، والمبررات أو التفسيرات التي يمكن أن تساق في هذا الصدد، كالقول إنّ الحكم فيها كان يحتاج مفتاحا للعلاقات مع الولايات المتحدة لحمايته من التهديدات السعودية والمصرية، فإنّ خسارتها الشعبية والجماهيرية تفوق المكسب الذي تحقّق بالعلاقات مع أمريكا، إذ ما يزال السلوك القطري محل تساؤل واشتباه لدى العديد من الأوساط الجماهيرية بسبب هذه الخطيئة، وهذا في حال فقط نظرنا للأمر نظرة منفعية صرفة.
ولو سلّمنا - جدلا - بالمبررات البراغماتية، في سياق النقاش فحسب، وكان الحكم في قطر يستشعر بضرورة الاستناد لعناصر قوّة تحميه من جار كبير قويّ حاول فعلا أن يدفع للانقلاب عليه في العام 1996، فأيّ شيء يجعل السعودية في حاجة لـ"
إسرائيل"؟! إنّ السعودية، وفي ظلّ دعاية تزعم أنها باتت دولة عظمى، وكأنّها تقول في الوقت نفسه، إنّها صغيرة إلى درجة لا تستطيع فيها مواجهة إيران دون تحالف مع "إسرائيل"، والتي هي بالمناسبة دولة صغيرة أيضا، طالما أن دعاية اللجان الإلكترونية مغرمة بالأحجام الجغرافية!
وإذا كانت العلاقات القطرية الإسرائيلية؛ جاءت في سياق دفع كبير لعملية التسوية، وموجة تفاؤل عارمة بإمكانية الوصول إلى "حلّ تاريخي"، فليس الحال كذلك في هذا الوقت، مع انكشاف استحالة أيّ إمكانية للتسوية بمحض المفاوضات، ضمن موازين القوى القائمة، وفي الوقائع؛ التي أوجدها الاحتلال على الأرض، ومع هيمنة اليمين الإسرائيلي على الحكم، وهو ما يعني رجحان ما يجري تسريبه عن ضغوط عربية، في القلب منها السعودية، على الفلسطينيين، لفرض تسوية أخفض سقفا من المبادرة العربية!
ثمّ إنّ قطر لم تبرر تطبيعها مع العدوّ بالهجوم على الفلسطينيين، والإساءة لقضيتهم، والتسليم بالحقّ الصهيوني في فلسطين، والتقليل من شأن المسجد الأقصى.. وهذا حتما لا يجمّل من سوءة تلك الخطيئة القبيحة، ولكننا ما نزال نتكلم بلغة الذرائعية السياسية التي يحاول هؤلاء ترويجها على حساب الحقّ والمبدأ. فحين مقارنة كلا السلوكين، تبدو قطر الصغيرة وهي تقترف تلك الخطيئة الفاحشة غير مضطرة للتجرّد من كلّ فضيلة تتعلق بفلسطين وأهلها، على خلاف الدولة التي تزعم دعايتها اليوم إنها عظمى، وتفتخر بحجمها الجغرافي الكبير!
حسنا.. إن كان كلّ ما قيل أعلاه غير صحيح، وأنه لا علاقات تطبيعية سرّية بين الحكم السعودي ودولة الاحتلال، وأنّه لا ضغوط سعودية على قيادة السلطة للقبول بحلّ مدمّر للقضية الفلسطينية، فما الذي يدعو الحكومة السعودية لتمرير كل تلك الحملات المسيئة لفلسطين وأهلها وقضيتها، خاصة إذا أخذنا ذلك بالنظر إلى حالة قمع الحريات غير المسبوقة بالسعودية، وبالنظر إلى جملة التسريبات التي لا تكاد تنتهي عن التطبيع السعودي الإسرائيلي، والذي بعضه معلن بالمناسبة؟!
الرجل الذي حطّم كل التوازنات في العلاقات الخليجية الخليجية، وداخل البلد مع الأسرة الحاكمة الكبيرة والحالة الدينية.. يجد نفسه مضطرا للتمهيد لإعلان علاقاته بـ"إسرائيل" بتهيئة الرأي العام
ثمّ ألا يخجل من يدّعي رفض التطبيع، وهو وبدلا من فضح حملات التطبيع المتزلفة لـ"إسرائيل" والمسيئة للفلسطينيين وتعريتها؛ يدافع عن حكومته، وينفي عنها ما يصعب نفيه حين أخذه ضمن السياقات سابقة الذكر؟ ثمّ ألا يخجل، وهو يقارن دولته (العظمى) بقطر (الصغرى)؟ فطالما أن هذه الأخيرة صغرى ولا يؤبه لها، فلماذا يُستخدم تطبيعها أداة في السجال منافحة عن الحكم السعودي المتهم بعلاقات تطبيعية مع الاحتلال؟!
في ذلك كلّه، نقطة مضيئة، وهي أن الرجل الذي حطّم كل التوازنات في العلاقات الخليجية الخليجية، وداخل البلد مع الأسرة الحاكمة الكبيرة والحالة الدينية، وغير ذلك.. يجد نفسه مضطرا للتمهيد لإعلان علاقاته بـ"إسرائيل" بتهيئة الرأي العام، عن طريق تحطيم القيم والمبادئ التي تربط شعب الجزيرة العربية بالقضية الفلسطينية، وهذا يذكّرنا بمقولة نتنياهو بأن العقبة كانت دائما في الرأي العام العربي لا في الحكومات العربية.