عقب الهجوم المروع الذي استهدف مصلين في مسجد الروضة غربي مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في كلمة بثها التلفزيون الحكومي: "سنرد على هذا العمل بقوة غاشمة". وفي حقيقة الأمر، فإن استخدام القوة المفرطة هي التي أدت إلى فشل الحملات العسكرية المتكررة للقضاء على الإرهاب في سيناء، منذ أكثر من أربع سنوات، بحيث تحولت المشكلة من تمرد محدود إلى حرب واسعة؛ بسبب التكتيكات العسكرية الخاطئة، والافتقاد إلى مقاربة تستند إلى أبجديات مكافحة التمرد.
تكشف المجزرة البشعة التي استهدفت مصلين أثناء أداء صلاة الجمعة؛ عن المدى الخطير الذي يمكن أن يبلغه العنف من خلال تخريب النسيج الاجتماعي، عندما يتحول السكان المحليون إلى أدوات بين قوى مسلحة متنافسة، حيث تختزل خياراتهم الحيوية الوجودية بكونهم إما مخبرين للعسكريين أو مناصرين للجهاديين، في سياق صراع الهيمنة والشرعية.
الهجوم الأشد هولا على صعيد عدد ونوع الضحايا من المدنيين؛ لم تتبناه أي جماعة حتى الآن.. وقد أسفر حسب النائب العام، عن سقوط 305 قتلى، بينهم 27 طفلا، في حين بلغ عدد الجرحى 128 جريحا. وبحسب المدعي العام، فإن عدد المهاجين تراوح ما بين 25 و30 مهاجما، كانوا يرفعون علم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، علما أن التنظيم لم يعلن بعد مسؤوليته عن الهجوم. وأضاف النائب العام أن منفذي الهجوم وصلوا المكان بواسطة خمس مركبات رباعية الدفع، كما أضرموا النيران بمركبات المصلين في المكان.
ثمة توافق بين الباحثين والخبراء على أن اتساع نطاق العنف في سيناء وتمدده إلى مناطق أخرى في مصر؛ هو نتيجة مباشرة للمقاربة العسكرية الكارثية التي يتبعها النظام
ثمة توافق بين الباحثين والخبراء على أن اتساع نطاق العنف في سيناء وتمدده إلى مناطق أخرى في مصر؛ هو نتيجة مباشرة للمقاربة العسكرية الكارثية التي يتبعها النظام في مواجه حركات التمرد، من خلال الاعتماد على استراتيجية الحرب الكلاسيكية وتكتيكات الأرض المحروقة. فبحسب عمر عاشور، فإن الاعتقاد السائد بين الأجنحة المسيطرة على البيروقراطيات العسكرية والأمنية؛ هو أنه كلما زاد القمع وتوسَّع (سواء كان قمعا وقائيّا/ هجوميّا، أو قمعا دفاعيّا/ ردة فعل) زادت احتمالات الإخضاع والسيطرة على التنظيمات المسلحة، وعلى سكان شبه الجزيرة معهم؛ بيد أنَّ هذا الاعتقاد غير مدعوم لا نظريّا/ عقلانيّا ولا عمليّا/ ميدانيّا. فتجارب الأربعة عشر عاما الأخيرة في سيناء تشير إلى عكس ذلك، وكذلك أية مراجعة مستقلة لحصاد السياسات الأمنية هناك.
تنامي الجماعات الجهادية يعكس فشل الاستراتيجية العسكرية المصرية، فقد تكاثرت الجماعات والحركات المسلحة التي تختلف في توجهاتها الإيديولوجية الجهادية؛ بين جماعات تنتمي إلى الفضاء الراديكالي القاعدي والفضاء الثوري والفضاء الداعشي. إذ تشير مسارات ولاية سيناء التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وتطوراتها في مصر؛ إلى مخاضات فشل التحولات السياسية وبناء الديمقراطية والتعددية. فقد ظهر التنظيم بداية باسم جماعة "أنصار بيت المقدس"، في 5 شباط/ فبراير 2011، وبأهداف محددة تقتصر على أولوية مهاجمة إسرائيل، ثم تحولت إيديولوجية الجماعة تدريجيا، عقب الانقلاب العسكري، إلى أولوية استهداف الجيش المصري وأجهزة الأمن. ومع تصاعد الحملة العسكرية على مواقع التنظيم في سيناء، أعلنت الجماعة عن تأسيس "ولاية سيناء" والانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية، في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، حيث تبنت إيديولوجية تستند إلى توسيع دائرة الاستهداف، لتشمل من تطلق عليهم "المرتدين" و"الصليبيين".
رغم إيديولوجية تنظيم الدولة المتطرفة وتكتيكاته العسكرية العنيفة، إلا أنه تطور بصورة لافتة، حيث تمكن من توسيع مجال الاستقطاب والتجنيد في مصر، وعمل على مد نطاق عملياته
رغم إيديولوجية
تنظيم الدولة المتطرفة وتكتيكاته العسكرية العنيفة، إلا أنه تطور بصورة لافتة، حيث تمكن من توسيع مجال الاستقطاب والتجنيد في مصر، وعمل على مد نطاق عملياته، حيث استثمر البيئة السياسية والاقتصادية لجلب الأعضاء، كما استثمر التكتيكات العنيفة للجيش المصري في سيناء لخلق حواضن شعبية متعاطفة. فالحملات العسكرية الفجة للنظام في سيناء؛ ولدت انطباعات تشكك في أهداف العمليات الحقيقية التي خالفت أبجديات "مكافحة التمرد"؛ التي تستند إلى كسب العقول والقلوب وخلق مناخات سياسية واقتصادية طاردة للتنظيم.
خلقت الحملة العنيفة التي يقودها الجيش في سيناء انطباعا يذكر بنهج الحروب الكلاسيكية، وتكتيكات الأرض المحروقة ضد دولة معادية. ففي إطار حملة الجيش النظامي على سيناء، التي بدأت في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، جرى تهجير أكثر من 1165 أسرة قسريا، وتم تدمير أكثر من 800 منزل في المناطق المجاورة لقطاع غزة، حيث جرى التعامل مع أهل سيناء كإرهابيين مفترضين، وأعداء محتملين، الأمر الذي خلق حالة من الاستياء والغضب، ووفر مناخات مثالية لتنامي نفوذ ولاية سيناء. كما أن اعتماد تكتيكات الأرض المحروقة، من خلال استخدام الأسلحة المدفعية الثقيلة وسلاح الجو، أدى إلى كوارث حقيقية، وأجج مشاعر العداء للحكومة. وقد بلغت عمليات الإعدام خارج نطاق القانون في سيناء بهذه الطرق وغيرها 1234 حالة، من أصل 1384 عملية في مختلف أنحاء مصر، حسب مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب.
تؤكد معظم الدراسات الموثوقة على خلل الاستراتيجية العسكرية المصرية، وتشكك في نتائجها. فقد ذهبت دراسة إسرائيلية لمعهد أبحاث الأمن القومي، التابع لجامعة تل أبيب، أعدها الباحث "أوفير ونتر"، إلى أن تحسين الوضع الأمني في سيناء في مواجهة تنظيم "داعش" وتنظيمات أخرى سلفية؛ يلزم القاهرة بالتغلب على التحديات المتعلقة بالانتقال من استراتيجية "مكافحة الإرهاب" إلى استراتيجية "مكافحة التمرد". فإحدى المسائل الإشكالية في موضوعة "حرب الإرهاب" في مصر؛ هي غياب المصداقية والشفافية. فرغم أن السلطات المصرية أشارت في مرات عديدة أن تنظيم ولاية سيناء يتكون من بضعة مئات، وهو رقم يتطابق مع تقديرات استخبارية أمريكية (600 - 1000)، إلا أنها أعلنت عن مقتل الآلاف من الإرهابيين. ففي سياق التفاخر بإنجازات الجيش بعد الإعلان عن انطلاق "عملية حق الشهيد" في أيلول/ سبتمبر 2015، أشار الجيش المصري، بعد مرور عام، إلى أنه تمكن من قتل 2529، والقبض على 2481 آخرين. وتتحدث مصادر أخرى عن قتل 5000 واعتقال أكثر من 5500.
بعيدا عن الدعاية والادعاء، فبينما يتطور أداء التنظيم الذي يُعرَف باسم "ولاية سيناء"، التابع للدولة الإسلامية، يتسم أداء الجيش المصري بالركود، حسب مجلة "فورين أفيرز"، فبدلا من لجوء القوات البرية المصرية إلى الاشتباك المعتاد واستباق العدو. يركض الجيش المصري على مساعيه الاقتصادية والحفاظ على قوته، ما يُفضي إلى استدراج القوات ببطء؛ عبر الكمائن والمفخخات على جانبي الطريق. الأدهى من ذلك، هو زيادة الاعتماد المصري على القوات الجوية الإسرائيلية للحفاظ على أمنها، إذ تملك قوات الجو الإسرائيلية الآن تفويضا مفتوحا لاستهداف الإرهابيين باستخدام الطائرات بنوعيها، بطيار أو بدون طيار التي تجوب الأجواء المصرية. تمهد إسرائيل الأرض في سيناء، ولكنها لا تقلل من مكاسب تنظيم الدولة، وهي المهمة تتطلب أقداما غير إسرائيلية على الأرض.
يبدو أن النظام المصري يقرأ دليل مكافحة التمرد بصورة مقلوبة تماما، إذ تستند بدهيات الدليل إلى كسب "العقول والقلوب" وتعزيز "الحكم والتنمية
يبدو أن النظام المصري يقرأ دليل مكافحة التمرد بصورة مقلوبة تماما، إذ تستند بدهيات الدليل إلى كسب "العقول والقلوب" وتعزيز "الحكم والتنمية". وحسب أوليفر بلشر، فإن جوهر مكافحة التمرد يتعلق بنتيجتين في الواقع: السيطرة على السكان وقتل المتمردين. فـ"حماية المدنيين" أمر مركزي في عقيدة مكافحة التمرد، واستراتيجية مكافحة التمرد، كما وصفها الجنرال ديفيد بتريوس في "الدليل الميداني لمكافحة التمرد الخاص بقوات مشاة البحرية في الجيش الأمريكي"، الذي صدر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2006، تستدعي مقاربة من ثلاث ركائز؛ تعرف بـ"الإخلاء، والحفظ، والبناء". وتعني: طرد المتمردين من منطقة معينة، ومنعهم من العودة، وبناء مؤسسات محلية تساعد السكان على المضي قدما.
لقد نال الدليل ثناء مؤسسات مراكز الأبحاث والأكاديميين "لإنسانيته" ومقاربته "الثقافية - الودية" للحرب، فصورته "الإنسانية" هي الجاذبية الرئيسة للعقيدة. إذ لم يعد موقف "أطلق النار وعذب أولا، واطرح الأسئلة لاحقا" الذي حث عليه كل من دونالد رامسفيلد وديك تشيني؛ هو مسار الجنود الرئيس، بل كانت الاستراتيجية موجهة نحو "الفوز بعقول وقلوب السكان المحتلين، وذلك بمشاريع تنمية وهيكليات حكم مسؤولة عرضة للمحاسبة، رغم أن الدليل يتعامل مع حالة المقاومة الناجمة عن الاحتلال، والتي يطلق عليها التمرد، فكيف هي الحال حين التعامل مع مواطنين؟ وقد تم تحديث دليل مكافحة التمرد مرة أخرى لتجنب النواقص والعيوب، ونشر في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013. ويرتكز على سؤال مركزي، وهو كيفية تفكيك حركات المتمردين والقضاء عليها؛ لإنقاذ حياة المدنيين وضمان الاستقرار السياسي.
بات واضحا أن الاستراتيجية العسكرية المصرية تسير باتجاه معاكس لمقتضيات مكافحة التمرد. فحسب عاشور، ثمة ما يشبه الإجماع بين علماء الاستراتيجية العسكرية المتخصصين في دراسات الحروب الثورية؛ على أن وحشية تعامل القوات النظامية مع السكان المحليين تساعد بشكل مباشر المقاتلين غير النظاميين على تجنيد الأفراد، وجلب الموارد وإضفاء الشرعية. ويُسمِّي الجنرال ستانلي ماكريستال -القائد السابق للقوات الأميركية في أفغانستان - تلك العلاقة بـ"حساب المتمردين". فـ"كل مدني برئ تقتله القوات النظامية يُوَلِّدْ عشرة مقاتلين جدد ضدهم". وبحسب نيويورك تايمز، فإن السيسى، وهو يعلن التزامه بمكافحة الارهاب، فإنه في الحقيقة يوجه طاقته باتجاه خصومه الآخرين؛ من النشطاء العلمانين والصحفيين ونواب البرلمان المستقليين ورجال الأعمال، والمعارضين له من الأكاديمين ومنظمات حقوق الإنسان والجماعات الإسلامية السلمية.
فشل حرب الإرهاب في سيناء نتيجة منطقية للاستراتيجية العسكرية الخاطئة التي تعتمد على منطق الحروب الكلاسيكية وتكتيكات الأرض المحروقة
خلاصة القول؛ أن فشل حرب الإرهاب في سيناء نتيجة منطقية للاستراتيجية العسكرية الخاطئة التي تعتمد على منطق الحروب الكلاسيكية وتكتيكات الأرض المحروقة، والتي تناقض المبادئ الأساسية لعقيدة مكافحة التمرد؛ التي تستند إلى كسب العقول والقلوب، وتقوم على اعتماد الحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة، والتخلي عن استخدام ذريعة "الإرهاب" لجلب الشرعية والمشروعية وإهدار حقوق المواطنين.. والأهم، خلق بيئة سياسية طاردة للتطرف والعنف، والالتزام بنطام ديمقراطي تعددي يقوم على الحرية والعدالة. فمن المؤكد أن الدكتاتورية سبب رئيس لتنامي ظاهرة العنف و"الإرهاب".