أرادت "فريدة الشوباشي"، أن تضرب عصفورين بحجر، فكان هجومها غير المبرر على الشيخ "محمد متولي الشعراوي"، إمام الدعاة وشيخهم.
أما أنه غير مبرر، فلأن الرجل مات منذ سنوات، ولم يفعل شيئا، الآن يستدعي أن يكون سؤالا في مقابلة صحفية، أو أن يكون موضوعا لإجابة، لاسيما وأن شخصه لم يكن موضوعا للحوار، الذي كان من كل "فيلم أغنية".
فيكون السؤال الموجه للمذكورة عن الشعراوي، ويتم القفز منه إلى سؤال عن رأيها في النقاب، وهكذا، ولسنا في مناسبة هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ليكون سجود الشيخ شكرا لله، من ضمن الأسئلة التي تطرح علىها، لتحلل الحرب وتداعياتها.
وغني عن البيان أن الشيخ زار ضريح عبد الناصر بعد ذلك معتذراً، وبرأيي أنه أصاب في السجود وأخطأ في الاعتذار.
واللافت هنا، أن المقابلة الصحفية التي تطاولت فيها "الشوباشي" على مقام "الشيخ الشعراوي"، افتقدت للحضور المهني، بالأخذ والرد، والتعليق والتذكير، فقد كان ما يهم فيها هو الهجوم، ليأتي بعد ذلك من يقول إن "الشعراوي" ليس معصوما من الخطأ.
ومن عجب أن هناك من رفضوا الهجوم على "فريدة"، وكأنها هى صاحبة العصمة والقداسة، وكأن الهجوم "حلالا بلالا" عندما يكون ضد "الشعراوي"، ويصبح محرما إذا كان في اتجاه "كايدة العزال"!
أما أن "فريدة الشوباشي" قد ضربت عصفورين بحجر، فلأن محاولة تشويه "الشيخ" والإساءة إليه إنما تلقى قبولا لدى تيار في الكنيسة، ولدى العسكر، في آن واحد، حيث تتقرب إليهما "فريدة" بالنوافل!
وإذا كان الشيخ "الشعراوي" ليس معصوما، والعصمة كما يقول المتصوفة لا تكون إلا لنبي، فإن كشف الأخطاء تكون ممن يكونوا مؤهلين لذلك، وصاحبتهم فاقدة للأهلية الفكرية، فيكفي أن نعلم أنها تركت المسيحية (بغرض الزواج).
وعندما كانت تنتمي لتيار لا يمثل له الدين أي أهمية، وفي مرحلة أعلن فيه المفكر اليساري الكبير إسلامه في حضرة ولي أمر المسلمين الأخ العقيد معمر القذافي، ولهذا قصة يجدر بنا ذكرها لتوضيح الصورة وتقريبها!
فغالي شكري كان في منفاه بباريس، إذ هاجر عدد من الشيوعيين والناصريين في عهد السادات إلى دول عدة منها ليبيا، وسوريا، والعراق، والصفوة ذهبت إلى فرنسا حيث حرية الحركة، التي لم تكن مكفولة للآخرين.
فمن هم في بلد يحظر عليهم الاتصال بالبلد الآخر، لا سيما في ظل العداء بين البعث في سورية وبعث العراق، وكان مهاجرو فرنسا يتنقلون بين هذه الدول بحرية، غير محسوبين على أحد!
ولأن القذافي عُرف عنه الكرم الحاتمي في شراء الذمم، فكانت تذهب إليه في طرابلس مجموعة باريس، ولا يستثني منه سوى واحدا هو "غالي شكري"، وعندما توسط له "الرفاق"، استنكر القائد الليبي أن يتعامل مع مسيحي.
وعندما وصل الأمر إلى "شكري" فقد وجد حلا عبقريا، أنتجته الفهلوة المصرية، فقد قرر أن يعلن إسلامه أمام القذافي، الذي كانت تداعب خياله أن ينتقل من مرحلة الزعيم القومي، إلى الزعيم الإسلامي الأممي!
وإذ عاد القوم إلى مصر في عهد مبارك، وتبوأ "غالي شكرى" مواقع مهمة في المشهد الثقافي بقرارات من السلطة، فقد غفرت له الكنيسة هذه الهفوة، وكان هو حربا على التيار الإسلامي، وهو الغفران الذي أسقط "خطيئة إسلامه" أمام القذافي ليصلي عليه البابا بعد وفاته، فهل تريد "الشوباشي" أن تصل ذلك، بل وتستفيد من الدعم السياسي الكنسي لها في الحياة الدنيا، والذي استفاد منه غيرها؟!
الهجوم على الشيخ الشعراوي يجد قبولا لدى تيار كنسي، يرى أن الرجل بنجوميته حقق حضورا للدين الإسلامي، حتى ارتقى أن يكون رمزا دينيا أكبر في القدر والمقام من موقع شيخ الأزهر.
ولهذا كان هدفا لإطلاق النار، ممن يدعون الاستنارة، التي لا تمتد أبدا لتصل إلى أفكار من الأديان الأخرى، أو لرجال دين مسيحي.
وأذكر بهذه المناسبة، أن أول ظهور للسيد القمني في محفل، كان في الجمعية المصرية للتنوير، وبعد أن صدرت له بعض الكتب مثل "رب الزمان"، وما إلى ذلك!
كان الدكتور "فرج فودة" قد أسس الجمعية المصرية للتنوير، واغتيل دون أن يقوم من خلالها بأي عمل، ورأى عدد من أصدقائه ضرورة بعثها وإقامة ندوات أسبوعية تحت لافتتها بمكتبه بمصر الجديدة، وكان معظم الأعضاء من الأصدقاء المسيحيين، الذين كانوا يقولوا لنا عند أي سؤال في الدين المسيحي إنهم علمانيون وليس لديهم فكرة عن الدين، وذات يوم جاء "سيد القمني" محاضرا.
أفكار "القمني" تدور حول أنه لا دين، وفي كتبه يطعن في صحة الأديان كلها؛ "فلا خبر جاء.. ولا وحي نزل"، فعدم اعترافه ليس قاصرا على الإسلام وحده.
وفي محاضرته هاجم الشيخ "الشعراوي"، وعندما انتقل للهجوم على بعض المعتقدات المسيحية، إذا بهمهمات وعدم ارتياح تصدر من الحاضرين، فصدر صوت ساخر من المحامي الشاب "مختار قاسم"، قبل أن يقول: "لماذا الآن؟"، وانتبه "القمني" للهمهمات وللتعليق فعلم أين يقف جمهوره، فانشغل بالحديث عن أدب الحوار، فلا يليق بمقام علم أن يكون هذا التعليق، ومن يومها علم "سيد القمني" طريقه، إلى حد أن يتبناه نجيب ساويرس، وأقباط المهجر، فلماذا هذا التبني؟!
ما علينا، فالمستهدف الثاني من رسالة "فريدة الشوباشي" هو الحكم القائم، وهو شأن الأنظمة العسكرية، بعقدته من الرموز، دينية أو سياسية، وقد بدأت محاولة تشويه الشيخ "الشعراوي" في عهد مبارك، وعلى يد وزير داخليته "زكي بدر".
ولم يكن هذا سيمر مرور الكرام إذا ظهرت السلطة في الصورة، فكان التشويه برسائل للأصدقاء يروجها الوزير، وفشلت أول محاولة على يد مسجونين جنائيين، قاموا بالاعتداء في السجن على من روجوا للإساءة، ومن الدعاية السيئة ما سمعته من المستشار سعيد العشماوي نقلاً عن "زكي" المذكور.
وتم استغلال المحرر الفني "محمود سعد" ليردد كلاما سلبيا ضد الرجل، لكن الفتنة وئدت في مهدها، لم ينالوا خيرا، وهو أمر قاموا به مع من هم أقل منه علما وشهرة من الدعاة.
وظهر موقف السلطة من الشيخ "الشعراوي" عند وفاته، إذ رفض وزير الداخلية "حبيب العادلي" أن تشيع جنازته من القاهرة، حتى لا يرى العالم مشهدا مهيبا، ويشاهد الملايين التي تودع هذا الرمز الديني الكبير إلى مثواه الأخير، وكان القرار بأن يدفن في قريته، فلم يستطيعوا منع مئات الآلاف من المشاركة فيها، لكنها كانت أخف الضررين ومن جنازة مليونية في القاهرة.
لم يكن الشيخ "الشعراوي" صوتا معارضا للسلطة، لكنه أيضا لم يكن مخبرا كمحمد مختار جمعة مثلا، وكان "قيمة" قبل أن يكون "نجما"، وعندما تم اختياره وزيرا للأوقاف كان اختيارا لهذه القيمة، في دولة كانت وثيقة الصلة بمرحلة المد السياسي في عهد ما قبل حركة ضباط الجيش، ولم تكن تدنت لمستوى مختار جمعة، وعلي جمعة!
وكان "الشعراوي" في عمله يخطئ ويصيب، فيجامل السادات بالانحياز له ضد النائب الشيخ "عاشور"، فيكون الصوت المهاجم له، هو لإمام مسجد "عين الحياة" في حدائق القبة الشيخ "عبد الحميد كشك"، وفي معركة لم يكن لليسار فيها وجود.
ويرتفع فيتصرف كرجل قيمة عندما يستجوبه نائب البرلمان الشيخ "صلاح أبو إسماعيل" ضد فساد في هيئة تابعة للوزارة يشرف ضابط فاسد من مراكز القوى عليها، اسمه "توفيق عويضة"، فينبري هو آسفا لأن يُقدم ضده استجوابا، والاستجواب اتهام.
ويقول كبيرة على عمامة أن تستجوب أختها ثم يستطرد: " ما جئت لأرد على الاستجواب ولكن لأردد الاستجواب"، وكان سجالاً بين عمامتين!
وخرج من وزارة الأوقاف، وهو يقول إنها تجربة أرجو ألا تتكرر، وعندما يسأل في مقابلة صحفية إن كان ينتظر إعادة تعيينه وزيرا أو شيخا للأزهر، فيقول: "يكفيني من الدست مغرفة"!
لا ينكر أحد أن السادات هو صاحب فكرة ترشيح "الشعراوي" لمقدم برنامج "نور على نور" الإعلامي "أحمد فراج"، وكان تقييم صوته قبل ذلك في الإذاعة بأنه ليس إذاعيا، وقد رشح السادات في وقت لاحق الشيخ كشك، لكن "فراج" قال له إنه لا يصلح للبرنامج، لأنه خطيب أكثر منه متحدث!
ومع ذلك، فقد هاجم السادات بعد ذلك الشيخ "كشك" بعد اعتقاله في أيلول/ سبتمبر سنة 1981، ووصل الحال إلى حد الافتراء عليه، وحكى قصة طويلة عن شكوى النميري من الشيخ، ليتبين أن النميري لم يشكُ، ولكنه السادات إذا أحب وإذا كره!
وفي هذا الخطاب هاجم السادات الشيخ المحلاوي وقال إنه "مرمي في السجن زي الكلب" ليبرق له الشعراوي ببرقية احتجاج فالأزهر يتخرج فيه العلماء وليس الكلاب!
وعندما أشاهد الآن قناة "ماسبيرو زمان" أرى أن شيوخا آخرين كانوا ضيوفا على برنامج "نور على نور"، ومع ذلك لم يلمع نجمهم، ولم نعد نتذكر الكثير منهم، ومعنى هذا أن السادات أو البرنامج لم يساهما في نجومية الشيخ الشعراوي.
لكن المسؤول عن هذا، هو علمه وطريقته في الوعظ، التي وصلت به إلى هذه النجومية وبقدرته على أن يكون رجلا شعبياً، تشد إليه الرحال من جميع الطبقات، وهذا مكمن الحقد عليه!
إن "فريدة" لديها بواقي فكر، وتفتقد للرؤية المكتملة، وهذه "البواقي" و"الفُضل" هي ليس نتاج حضور منتدى فكري أو سياسي أو بحث عميق، وهي تريد أن تقول بدعائها على السادات الذي قدم الشعراوي، إنه انحاز للتيار الإسلامي، وهو أمر فيه كلام كثير، نتجاوزه كله، ونسلم بما أرادت أن تقوله "الشوباشي"، فتاه منها!
لا بأس فلنسلم جدلا أن الفضل في نجومية الشيخ الشعراوي ومكانته إنما يرجع للرئيس السادات، فأين نجومهم بعد ثلاثين سنة من حكم مبارك، كان فيها على عداء مع الإسلاميين وتقرب إليه أهل اليسار زلفى؟
"الشعراوي" استفاد من قربه من السلطة بهذه الشعبية الواسعة، في حين أن اليسار لم ينتج شخصية كالشعراوي في الشهرة والمكانة عندما اقترب من السلطة وأصبح على "حجر النظام"، وكان المطلوب متواضعا، فتزور الانتخابات من أجل أن يصبح خالد محيي الدين بكل تاريخه مجرد نائب، وينتهي به المطاف هاتفا باسم إبراهيم نافع أحد رموز الفساد الصحفي، حتى تصل الرسالة بالهتاف، فلا يظن أحد، مجرد الظن، أن صوته في انتخابات نقابة الصحفيين ذهب للناصري "جلال عارف"!
أما موضوع سجود الشعراوي لهزيمة 1967، الذي اعتبرتها "فريدة الشوباشي" مدخلا للهجوم على شيخ الدعاة، فهي سجدة شكر، على نظام رمى نفسه بالكلية في أحضان السوفيت، وانتهك في سجونه أعراض الرجال، ورفع عقيرته بحرب لم يكن مستعدا لها!
فبعيدا عن الأناشيد، فعبد الناصر ورفاقه من العسكر دمروا الجيش المصري، ثم رفعوا عقيرتهم بدق طبول الحرب، وقد أخرجوا منه كبار الرتب، لافساح المجال لصديق عبد الناصر "عبد الحكيم عامر" الضابط الطائش والمنفلت ليكون وزيرا للحربية، ثم جرى استخدام الجيش في الصراع السياسي، في البداية ليردع به عبد الناصر خصومه في مجلس قيادة الثورة، وفي النهاية ليستخدمه "حكيم" في معركته مع عبد الناصر.
وبدأت الأزمة بينهما ليس بعد الهزيمة كما يروج البعض، ولكن منذ سنة 1964، وجيش تحول إلى خلايا تتآمر كيف لقيادته أن يقرروا مع ذلك خوض غمار الحرب به.
ولنسمع إلى ما كتبه عبد اللطيف البغدادي، أحد الضباط الأحرار، وعضو مجلس قيادة الثورة، وعضو المجلس الرئاسي تعليقا على هذه الهزيمة، حتى نتوقف عن "ردح النساء" في الحواري: "وهذه نهاية كل نظام مثل هذا النظام، ومقامرة جمال عبد الناصر بمستقبل أمة بأكملها في سبيل مجده الشخصي.
وكنا نعرف من قبل أنه يقامر، وكنا نندهش من هذا التصرف، وهو كان قد قدر أنه سيحقق نصراً يرفعه إلى السماء دون أن يخسر شيئاً، فجاءت النهاية -نهاية نظامه- وخزي وعار على الأمة، ربما يكون خيرا من يدري، وربما أراد الله إنقاذ هذه الأمة من استعباد جمال لها ومن تأليهم له.
واستمرار هذه الصورة كان سيؤدي إلى أسوأ مصير، فربما أراد الله بهذه الأمة أن تصحو من غفوتها وتحطم الآلهة، وتصحو لنفسها، وأن لا تدع شخصا آخر يسيطر عليها، كما سيطر جمال، من يدري"!
فافرفشي الملاية يا "فريدة" وامتعينا بوصلة ردح ضد البغدادي هذه المرة فهل تستطيعي؟!